نورس البريجة: خالد الخضري
– آذان .. نفير .. مدفع
وقدمها هدية للكبيدة ..
راها جديدة وغادية تبقى جديدة ..حرة دكالية مغربية …”
بهذا المقطع الذي يتصدر أغنية” الجديدة” التي كتبت كلماتها وغنتها رباب الجديدي من ألحان والدها بوشعيب ناجيدالجديدي، أفتتح هذه الورقة الحميمية عن شهر رمضان المباركوالأخير في مدينة البريجة والذي استمتعت واستفدت حقا من قضاء معظم أيامه بين ظهرانها وفي شتى فضاءاتها الحيوية والمنعشة : في الشاطئ ومقاهيه الليلية .. في حديقة محمد الخامس وما شهدته من أنشطة موسيقية داخل إطار “ليالي رمضان” التي نظمها المركز الثقافي الفرنسي بالجديدة..أو بالحي البرتغالي ما شهده أيضا من أنشطة في إطار مهرجان “الملحونيات” الذي تشرف عليه العمالة …
إلا أن أجمل مشهد كان يروق لي تتبعه تقريبا يوميا ولم تكن تشرف عليه أية مؤسسة حكومية ولا خصوصية، باستثناء فرقة من القوات المسلحة الملكية وبعض رجال الأمن، الذين كانوا يرافقون كل مساء قبيل الإفطار بلحظات، شاحنة عسكرية تجر مدفعا كبيرا توقفه خلف بناية البلدية بمحاذاة الشاطئ مولية فوهته نحو البحر .. فيتجمهر حوله عدد كبير من المتفرجين من كلا الجنسين وبأعمار مختلفة – لا سيما الأطفال – كما بعض الأجانب الذين لاحظت تكرار حضورهم لنفس المشهد وتصويره ..حيث بمجرد ما ينطلق آذان المغرب ممزوجا بصوت النفير (الزواكة) والتي يعود تاريخها إلى المرحلة الاستعمارية حيث لا تزال أبواق هذا النفير أو الزواكة تعلو بناية المسرح، فبمجرد انطلاق هذا النفير بثواني معدودة، يتقدم جندي شاب ليضغط على زر في المدفع فتنطلق قذيفته محدثة دويا قويا تعلو على إثره صيحات الاستحسان والبهجة زائد منبهات إندار بعض السيارات القريبة والتي تنطلق تلقائيا بتأثير من شدة الانفجار – ممتزجة مع ما تبقى من صوت النفير – مما يخلف أيضا دخانا كثيفا يغلف المشهد كله في غلالة ضبابية كثيفة لا تلبث أن تنقشع عن مشهد غروب رائع الشيء الذي يؤثث المشهد السمعي البصري بنكهة رمضانية رائعة لا يمكنك إلا أن تردد في السر والعلن :
” ما أحلى رمضان في الجديدة”
ونفس المدفع يعود ليطلق طلقة أخرى وقت السحور، وهذه الطلقة تسمع بوضوح أكبر في مدينة الجديدة نظرا لخلو الشارع وقلة الحركة.. فشخصيا وطيلة معظم أيام هذا الشهر الفضيل، كنت أنزل للشاطئ قبل آذان المغرب بحوالي ساعة وربع لممارسة بعض التمارين الرياضية الخفيفة أو لعب الكرة ثم السباحة، وهي أجمل رياضة وأشدها فائدة كنت أصر على ممارستها مهما كانت أحوال الطقس .. ثم بفضل قنينة ماء كبيرة كنت أجلبها معي في السيارة، أتناول دشا بالماء العذب في الشاطئ وأرتدي ملابسي ثم أصعد لمتابعة مشهد “مدفع رمضان” الرائع وأصوره فيديو ولقطات ثابتة في كل مرة أراه دون أن أمله !!وفي إحدى المرات رافقتني قريبتي عتيقة معروف ومعها ميساء بنت شيقتها ابتسام فالصبية دعاء معروف (سنة ونصف) ابنة توفيق .. والغريب الطريف بالنسبة لهذه الصبية الجميلة، أنها لم تخف من مشهد المدفع ولا أزعجها دوي انفجاره !!بل غذوت كلما قلت لها:
– “يالله أدعاء نشوفوا المدفع”
ترفع ذراعيهاإلي أعلى لأحملها حيث تريد علما بأنها ارتاحت إلي وتعلقت بعنقي بمجرد رؤيتها لي لأول مرة رغم تحاشيها أي غريب، حتى بعض قريباتها وأقاربها باستثناء عمها عبد الرحيم. حقا إن “الأطفال زينة الحياة ” لا لشيء إلا لأنهم يمثلون الطهر والبراءة في أبهى صورهما.ومن لا يحمل في صدره قلب طفل لا تنتظر منه الكثير….
– مدفع رمضان: وليد صدفة
بالبحث في تاريخ هذه العادة الجميلة التي لا تزال تتبع في عدد كبير من المدن المغربية والعربية، تبين أنها لم تصدر بناء على فتوى فقهية ولا أمر بها أمير أو حاكم عربي وإنما ولدت عن طريق الصدفة فاستحسنها الناس وحافظوا عليها :
مدفع رمضان أسلوب يستخدم لإخبار العامة بحلول موعد الإفطار وفك الصوم في شهر رمضان حيث يقوم جيش البلد بإطلاق قذيفة مدفعية لحظة مغيب الشمس. وهو تقليد متبع في العديد من الدول الإسلامية. كما كان يلجأ إليه للتبشير بحلول عيد الفطر السعيد ولازال هذا التقليد ساريا حتى اليوم.
يذكر التاريخ إلى أن المسلمين – في شهر رمضان – كانوا أيام الرسول (ص) يأكلون ويشربون من الغروب حتى وقت النوم.. وعندما بدأ استخدام الآذان اشتهر بلال بن رباح وابن أم مكتوم بجودة آذانهما. وقد حاول المسلمون على مدى التاريخ ومع زيادة الرقعة الإسلامية وانتشار الإسلام، أن يبتكروا وسائل مختلفة إلى جانب الآذان للإشارة إلى موعد الإفطار إلى أن ظهر المدفع إلى الوجود في القرن 15 الميلادي.
كانت القاهرة عاصمة مصرأول مدينة ينطلق فيها مدفع رمضان.. فعند غروب أول يوم من رمضان عام 865 هجرية (10يونيوه 1461 ميلادية) أراد السلطان المملوكي خشقدم أن يجرب مدفعا جديدا وصله، فصادف إطلاق الدفع وقت المغرب بالضبط ظن الناس معه أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حل. فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها.. وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار ثم أضاف بعد ذلك مدفعيالسحور والإمساك.
وهناك رواية تفيد بأن ظهور المدفع جاء عن طريق الصدفة،فلم تكن هناك نية مبيتة لاستخدامه لهذا الغرض على الإطلاق،حيث كان بعض الجنود في عهد الخديوي إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوت في سماء القاهرة،وتصادف أن كان ذلك وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان،فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدًا جديدًا للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، وقد علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل بما حدث، فأعجبتها الفكرة، وأصدرت فرمانًا يفيد باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفى الأعياد الرسمية.
– من مصر إلى العالم الإسلامي
بدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولا، القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى ثم إلى بغداد في أواخر القرن 19 م .. وبعدها انتقل إلى مدينة الكويت حيث جاء أول مدفع إليها في عهد الشيخ مبارك الصباح عام 1709. ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج قبل بزوغ عصر النفط وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب إفريقيا وشمالها بدول المغرب العربي وضمنها المغرب بطبيعة الحال.
وكانت أول المدن التي انطلق فيها مدفع رمضان هي فاس ومراكش لتليها بقية المدن وضمنها البريجة / الجديدة إذ لا زلت أذكر أنني كنت أتابع هذه العادة منذ طفولتي المبكرة، وكان هناك مدفع قار فوق البرج المطل على الميناء حيث كنت ومجموعة من أترابي الصغار نتجمهر حول المدفع إلى أن يطلق قذيفته لنطلق بعد ذلك العنان لسيقاننا النحيفة تسابق الريح نحو منازلنا لتناول طعام الإفطار الشهي – رغم أن معظمنا لم يكن الصيام قد حق عليه بعد – وذلك في حضرة وحنان الوالدين الجملين تغمدهما الله برحمته .. ووسط لمة عائلية رائعة تصدعت حاليا بفعل الشاشة وما تقدمه من برامج التبليد والضحك على ذقون المشاهدين لحد الإصابة بعسر الهضم .
لهذا سررت كثيرا بمشهد عدد من العائلات الجديدية التي كانت تحضر طعام إفطارها ومعظم أفرادها كبارا وصغارا لتفطر بالشاطئ على بعد خطوات من البحر. حقيقة كنت أغبطها على ذوقها وشجاعتها في تناول فطور شهي، نظيف وخال من شوائب التلفزيون بمختلف قنواته لاسيما المحلية والعواذي بالله.
تقبل الله صيامهم وصلواتهم كما تقبل صلواتكم وصيامكم..
وكل عام وأنتم على موعد الإفطار مع “مدفع رمضان” في مدينة الجديدة الجميلة وفي مختلف مدن المملكة
وعيدكم مبارك سعيد.