نورس البريجة: خالد الخضري
1 – في فرنسا ومصر، لا ماء إلا بطلب سابق
خلال زيارتي الأخيرة لمدينة فاس التي دام مقامي بها 10 أيام، كنت كلما طلبت قهوتي الصباحية وبأي مقهى، يُحضر لي النادل أو النادلة فنجان القهوة مصحوبا بكوبين من الماء !!، الشيء الذي أثار استغرابي. فطفقت أٌقارن هذه الظاهرة مع ما يحدث في جميع المقاهي التي ارتدتها سابقا داخل وخارج المغرب.
ففي سائر المقاهي المغربية عادة ما ياتيك النادل بفنجان القهوة أيا كان نوعها مصحوبا بكوب ماء واحد.. وأحيا لا يُحضره إلا إذا طلبته بنفسك. في فرنسا وفي جميع مدنها ومقاهيها، لا يجلب لك النادل كوب الماء لا إذا طلبته:
– – من فضلك فنجان قهوة خفيفة وكوب ماء SVP un café léger avec un verre d’eau
فيلبي النادل الطلب بأدب جم:
D accord, ou tout de suite Monsieur
كذلك في مصر: القاهرة، الإسكندرية، الأقصر والإسماعيلة (المدن التي زرت) يحدث نفس الشيء، يعني لا يجلب لك النادل الماء إلا إذا طلبته وهو ينادي بصوت مرفوع:
– وعندك وحدة ع الريحة وكُبّاية مَيّة للبيه الافندي المغربي.
(هذه الجملة المنغومة كنت أسمعها يوميا في مقهى شعبي داومت الجلوس به منذ أن وطئت قدمي لأول مرة أديم قاهرة المعز سنة 1992 . وهي السنة التي حاورت فيها عميد الأدب العربي الراحل الأستاذ نجيب محفظ ونشرت الحوار بالكتاب الذي خططت مسودته في ذات المقهى: “مصر بالأبيض والأسود، قراءة مغربية في عين المكان” فلحد الآن وكلما عدت للقاهرة وقصدت مقهى “الأندلسية” الموجودة بشارع 26 يوليو في مواجهة الفندق الكبير، غير بعيد عن دار القضاء العالي، إلا ويترنم النادل أحمد صائحا بتلك العبارة وجالبا معه كوب ماء حتى ولو لم أطلبه ولا شربت منه جرعة واحدة.)
إلا أن الفرق بين فرنسا ومصر هو أن النادل المصري – لا سيما في المقاهي الشعبية – حين يحضر لك كوب الماء، ويعرج عليك في دورته الثانية أوالثالثة حيث تكون قد جرعتَ منه جرعة واحدة وأحيانا قد لا تلمسه، يحمل – إن لم أقل يخطف – الكوب من أمامك غامسا أصابعه فيه ! مما يفقدك شهية الشرب منه ومن أي كوب آخر. لذا تعودت هناك أن أحمل في محفظتي دائما قنينة ماء معدني صغيرة وكلما كرعت منها جرعة أعدتها للمحفظة حتى لا يجهز النادل على ما تبقى فيها.
2 – في فاس، القهوة بكوبَيْ ماء للعزيز الغالي
اشتهرت مدينة فاس أولا بمائها الرائق الي ينحدر من جبال الأطلس كما من الوفير من العيون المجاورة، يكفي دليلا ماء عين الله وماء عين سيدي حرازم اللتين تحظيان بشعبية كبيرة وإقبال على شرب مائهما والاستحمام به لما فيه من منافع بيولوجية، زيادة على عين مولاي عقوب الخاصة بالاستحمام.
ففي مدينة فاس القديمة وعلى امتداد زقاقيها الضيقين الشهيرين: الطالعة الصغرى والطالعة الكبرى، كما بجنبات معظم المساجد والمدارس العتيقة وحارات الحرفيين كالنجارين.. والعطارين.. والحدادين.. والخرّاطين.. والشرابليين إلخ… توجد “سقايات” توزع الماء العذب بالمجان لفائدة السكان المجاورين والمارة على حد سواء، إذ يندر ألا تغريك أشكالها، تضاريسها كما وفرة مياهها بالنهل منها: هندسة عربية أندلسية مزخرفة بأصداف زليج صغيرة ذات ألوان مزركشة ومتكاملة عادة مما تكلل بقوس من الخشب أو الجبص مكلل هو الآخر بزعانف من القرميد الأخضر، ينقش فيه – وبخط عربي جميل – إما اسم السقاية أو آية قرآنية أو حكمة أو بيت شعري.. وفي منتصف السقاية بالأسفل تمة صنوبر يتدفق منه الماء الزلال على نغمات خرير رائق، مما يشكل في النهاية لوحة فسيفسائية رائعة تغري وتروي العين والأذن قبل الفم والحنجرة.
ففي معظم مقاهي مدينة العلم حين تطلب قهوتك تحضر مصحوبة بكوبين من الماء الشيء الذي جعلني أسال عن هذه التركيبة الثلاثية الفريدة ذوي الاختصاص مثل بعض النوادل أو ملاك مقاهي على رأسهم الفنان عز العرب الكغاط صاحب أشهر وأقدم مقهى أدبي بفاس (لاكوميدي) فأجاب:
– عموما ليست كل مقاهي فاس توفر كوبيْ ماء مع القهوة وإن كان الكثير منها يفعل ذلك.. هي بالدرجة الأولى عادة قديمة، لأن ماء فاس مشهور بعذوبته وسلاسته والناس سواء المحليون أو الضيوف يتناولونه بشراهة.. وشخصيا حتى وإن كنت لا أمنح للزبون كوبَيْ ماء، إنما أحيانا أضع أمامه قنينة ماء بكاملها ليشرب ويزداد، متى طلب الماء ثانية طبعا. كما أن للعامل المادي دخل، إذ أن المقاهي التي تتبرع بكأسين بدل قنينة ماء معدني صغيرة، يكون سعر القهوة فيها أرخص من سعر تلك التي توفر الماء المعدني مع القهوة.. فبعض الزبائن “يضرب الحساب مع راسو فيقول: أنا سأشرب قهوة ومعها قنينة ماء صغيرة ب11 أو 12 درهما مثلا، فاللهم أتناول أخرى ومعها كوبان كبيران من الماء وفقط ب 7 أو 8 دراهم.. فكل واحد كيتشطر على راسو” (قال هذا وضحك).
– في هذا السياق سألت السيد هشام، زبون تكرم بالتقاط صورتي مع فنجان القهوة عن سر هذه التركيبة الثلاثية المذكورة فأجاب مبتسما:
– “فقط لكي يتفادي النادل الرجوع عند نفس الزبون لتلبية نفس الطلب دون فائدة.. فهكذا حين يضع أمامه كأسين من الماء “كيتهنّا منو” ضامنا عدم إزعاجه بطلب الماء مرة أخرى.. (قال هذا وضحك بدوره)
بينما نادل آخر بإحدى مقاهي فاس، هو السيد جواد مخلص حين سألته:
– لماذا أحضرت لي كأسيْ ماء؟
رد وهو يبتسم:
– غير بغيت نتهلى فيك ألعزيز ديالي…
فكنت أنا من ضحك إعجابا بخفة دم هذا النادل ولباقة الفاسيين في التخاطب بأدب وحلاوة اللسان.. فالجميع عندهم:
“غْزال..
وحْبيب..
وعْزيز وغالي”