نورس البريجة: خالد الخضري
1 – براءة مذنبة
في سائر المهرجانات السينمائية الوطنية والدولية، يبرز فيلم واحد أو اثنان، يثيران أولا اهتمام معظم من يشاهد الأفلام فيتوقع له أو لهما بجوائز مهمة إن لم تكن الجائزة الكبرى فعلى الأقل جائزة الإخراج أو أول دور رجالي أو نسائي. هذا شأن فيلم “قدحة، حياة ثانية” للمخرج التونسي أنيس الأسود وبطولة مجموعة أطفال على رأسها الطفل ياسين تورمسي (13 سنة خلال التصوير) الذي أدى دور البطولة بإقناع وإمتاع مستحقّيْن. كما أن ذات الطفل شاهد معنا الفيلم بمهرجان تطوان هذا بعد 3 سنوات من إتمام تصويره سنة 2019. ساندته في هذه المهمة التشخيصية وبنفس الدرجة، الطفلة المعجزة غالية ، كريمة المخرج (8 سنوات حاليا).
يحكي ملخص الفيلم: ((“قدحة” طفل تونسي عمره 12 سنة.. يتعرض لحادث مرور يدخل على إثره للمستشفى. تتلقى والدته “بُركانة” مساعدة السيدة “مليكة وزوجها “معز” اللذين يغطيان مصاريف المستشفى ويوفران لها عملا ومسكنا. يلتقي “قدحة” بابنهما الوحيد “أسامة” 11 سنة، وهو يتعافى من عملية زرع كلية. فتنشأ صداقة متينة بين الطفلين ليكتشف خلالها “قدحة” سر تغير مستوى عيش أسرته، فتنقلب حياته رأسا على عقب…)).
في البداية تجدر الإشارة إلى أن المخرج أنيس الأسود لم يتناول موضع الطفولة محورا أساسيا لفيلمه هذا لأول مرة، فهو أصلا وفي سائر أعماله السينمائية القصيرة السابقة، اهتم بالطفل، من أهمها فيلم: (سباط العيد) سنة 2012 الذي نال كثيرا من الجوائز. كما حصل أنيس على جائزة حماية حقوق الطفل على مجموع أعماله التي تنادي بضرورة احترام الأطفال وحقوقهم. “قدحة، حياة ثانية” هو أول أفلامه الروائية الطويلة.
فهذا الفيلم إذن هو حصاد تراكمات وتجارب ميدانية أولعت إن شئنا التعبير “قدحة” أو شعلة سينمائية يتماهى معها المشاهد في كتابة سينمائية سلسة لا تتوخى التعقيد مضمونا ولا الحذلقة الفنية أو التقنية شكليا.. حكاية طفل من وسط شعبي هو ووالدته المطلقة وشقيقته الصغيرة، إلى الطبقة الفقيرة أقرب. يتعرض لحادت سير فيخضع لعملية جراحية – لم تكن ضرورية – يستفيق بعدها على عدد من المتغيرات الجدرية في حياته وأسرته: أولاها انتقاله مع أسرته إلى السكن في بيت أفضل مما كانوا فيه، ثانيها حصول والدته على عمل تعيل به ولديها ونفسها.. وثالثها جرح في جانبه الأيسر لن يستوعب فحواه إلا عن طريق الصدفة، عبر سماعه لحوار بين والدته وجدة الطفل أسامة ابن العائلة التي آوته وشغلت أمه كما هو لاحقا، وهو أنه تم استئصال إحدى كليتيه لإنقاذ حياة هذا الطفل الذي لا يعرف بدوره من أين جاءته ؟
وهكذا هيمن شعور فادح ب”البراءة” ممزوجة بالذنب، يجعلك لا تكره لا والدة قدحة ولا أسرة أسامة الذين (تآمروا) جميعا لإنقاذ حياة طفل مماثل في السن. في حين وبمقابل الشعور بالبراءة والتعاطف هذا مع المتآمرين، يكتنف قدحة شعور عارم بالغضب والكراهية تجاه والدته بالخصوص، وتجاه أسرة أسامة إلى درجة أنه فكر في قتله بالقوس والسهم اللذين كانا يلعبانه بهما.. ثم قتل والديه كما أمه حين رمى نافذة بيتها مكسرا زجاجها، والحزن يعتصر قلبه لإحساسه بأنه كان ضحية تواطؤ أسروي كان ضروريا لإنقاذ حياة إنسان غدا يحبه مثل أخيه !!
2 – البحر أمامه والشجرة وراءه
لمواجهة هذا التمزق العاطفي، والحيرة القاتلة بين الحب والكراهية، كان قدحة يفر إما بصرف نقوده في ملاهي الأطفال، او ركوب دراجة نارية بطرق بهلوانية مع أترابه.. كما كان يفر بالخصوص إلى مأويين طبيعيين: شجرة البيت الكبيرة حيث كان يختبئ بين أغصانها وأوراقها يراقب ويفكر.. ثم الماء، ماء المسبح المنزلي (الجابية).. وخصوصا ماء البحر الذي كان يهرع إليه ممرغا فيه جسمه ووجهه حتى في الليل. دون أن يخبر والدته بمكان اختفائه وهو ويكاد ينسفها بنظراته الفتاكة وصمته القاتل الذي جعلها تنفجر في متم الفيلم ناحية باللائمة على والده الذي هجرهم جميعا إلى إيطاليا دون أن يسأل عنهم ولا مرة واحدة.
فكانت هذه المرأة مثل اسمها “بُركانة” ذات قسمات قمحية حادة وصارمة مثل بركان نائم حين يستيقظ، يرمي بحممه وغضبه على من حوله مبتدئا بنفسه حين ينهمر الدم من أنفها قبل أن تنفجر، الشيء الذي يجعلك تحتار بدورك في الشعور الذي تحمله لهذ المرأة أنت كمتفرج: هل هو الأسى والكراهية ؟ أم التعاطف والتقدير؟ أم الحزن على مصير الأبناء وهم في عمر الزهور بعد فراق الوالدين سواء تم بموت أولا طلاق أو هجر علني كما هو شأن حذقة؟.
وفي واحد من أقوى المشاهد وهو مشهد المواجهة والتهديد بالقتل من طرف حذقة بالقوس والسهم، ينتهي الفيلم بالطفل “الضحية والإنسان” برفع القوس وتسديد السهم إلى السماء وهو يصرخ بأعلى ما أوتي من قوة دون أن يطلق السهم، يكون الطفل ياسين تورمسي بجسمه النحيل.. وسمرته القمحية.. ونظراته الفتاكة.. وصمته المدوي، قد سدّد.. ورمى .. ثم أصاب دون أن يطلق السهم. فاستحق بذلك وعن جدارة تامة، جائزة أحسن دور ذكوي في الدورة 27 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط، حتى ولو لم تمنحها له رسميا لجنة التحكيم.
تصوير: عمار العطار
مزيداً من التوفيق والنجاح الدائم إن شاء الله أستاذ الفاضل خالد