تطوان – نورس البريجة: خالد الخضري
في إطار مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بالدورة 27 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط، عُرض فيلم (أبو صدام) للمخرجة المصرية نادين خان، كريمة المخرج الراحل محمد خان، أحد أصدقاء هذا المهرجان.. سيناريو وحوار: محمود عزت.. بطولة: محمد ممدوح ، أحمد داش ، علي الطيب ، هديل حسن ،علي قاسم سيد رجب. ورد بملخص الفيلم:
((سائق تريلا – شاحنة نقل بضائع – ذو خبرة في عمله، يكلف بمهمة نقل إحدى الشحنات على طريق الساحل الشمالي بعد انقطاع عن العمل دام لسنوات، وبينما يحاول إنجاز مهمته على أكمل وجه، يتعرض لموقف يجعل الأمور تخرج عن سيطرته)).
بالاطلاع على الملخص، تبدو المعالم الأولى لنوعية هذا الفيلم في خارطة السينما العربية والعالمية ألا وهي “سينما الطريق”.. حيث يقلنا فيلم من الأفلام من خلال وسيلة نقل خصوصية أو عمومية، عبر رحلة طويلة تقع خلالها أحداث أغلبها غير متوقع بالنسبة لشخوص الفيلم الذين ليسوا أبطالا بالضرورة، لأن البطل الرئيسي في هذا الصنف من الأفلام هو “الطريق” بما يحمله هذا الفضاء الممتد من نقطة البداية إلى النهاية، من دلالات جغرافية، اجتماعية وبسيكولوجية مؤثرة، تحيل في كثير من الأحيان على طريق الحياة الممتد من المهد إلى اللحد.
1 – لاسترادا
يشهد تاريخ السينما أن أشهر فيلم يمكن اعتباره فاتحة موجة “سينما الطريق” هو الحامل لاسمها كعنوان: (الطريق) “لاسترادا” لفيلسوف السينما الإيطالية فيدريكو فيلليني سنة 1954.. بطولة أنطوني كوين و جوليتا ماسينا زوجة فيلليني. ولو أن أحداثه لا تجري داخل وسيلة نقل بعجلات، بل عبر تنقل ثنائي مهرج أو حكواتي من قرية لقرية.
2 – ابن السبيل
بعده أو من وحيه توالت هذه العينة من هذه الأفلام لتصل إلى العالم العربي وتحديدا في السينما المغربية عبر فيلم (ابن السبيل) لمحمد عبد الرحمان التازي 1981.. سيناريو وإنتاج نورالدين الصايل. تشخيص: علي حسن، نادية أطبيب، أحمد السعري، العربي اليعقوبي، جيلالي فرحاتي ومحمد البوعناني… ويحكي قصة سائق شاحنة يكلف بنقل شحنة ثمر من مدينة إنزكان إلى طنجة. فيحمل معه في الطريق أشخاصا أهمهم امرأة تم الاعتداء عليها ورميها في الطريق لتنشأ علاقة حب خجولة بينهما وتنتهي الرحلة بعدم وصول الأمانة إلى أهلها وانهيار حلم عمر بالهجرة إلى الخارج.
3 – ثلاثة على الطريق
على نفس النهج سار الفيلم المصري (ثلاثة على الطريق) لمحمد كامل القليوبي 1993.. تشخيص: محمود عبدالعزيز ،عايدة رياض، لطفي لبيب… ويحكي قصة سائق شاحنة نقل (لوري) يقوم برحلة من الأقصر إلى طنطا. وخلال رحلته يركب معه الطفل خليل الهارب من قسوة زوجة أبيه متجها إلى أمه في طنطا، كما يقل معه تحية ليوصلها إلى صديقة لها. وخلال رحلة ثلاثتهم على الطريق، يواجهون العديد من المشاكل التي تعرقل مسارهم. والحقيقة أن هذا الفيلم ما هو إلا تمصير للفيلم المغربي الآنف الذكر (ابن السبيل).
4 – حياة
ثم نعود إلى المغرب لنرافق (حياة) في الفيلم الحامل لاسمها عبر حافلة نقل عمومية من الشمال طنجة، إلى الجنوب: أكادير، للمخرج رؤوف الصباحي 2017.. تشخيص: لطيفة أحرار، إدريس الروخ ، عز العرب الكغاط ، مالك أخميس … هذه الحافلة تقل أصنافا متنوعة من الناس من كلا الجنسين تلتقي كما تتقاطع سبل ووسائل تفكيرها وعيشها تنتهي بولادة ال”حياة” في متم الرحلة.
5- أبو صدام في المواجهة
فيلم (أبو صدام) المصري أو “ملك الطريق” كما يطلق على نفسه لا يشذ عن سياق الأفلام المذكورة حيت تبقى الطريق هي أهم قاسم مشترك بينها جميعا، لكن مخرجته تركز على عنصرين اثنين بدرجة أكبر تكاد تكون متوازية ومتوازنة، أولهما بشري: السائق / الممثل (محمد ممدوح) وثانيهما أكسسوار: الشاحنة في حد ذاتها والتي لا أقول تقاسمت البطولة مع ملك الطرق ولكن تنازعتها معه.. بحيث كانت أكثرية اللقطات تتوزع بين المقربة جدا (Très gros plans) والمقربة.. التي تؤطر مرة وجه أو رأس السائق.. ومرة مقدمة الشاحنة أو خلفيتها.. أو أحد جانبيها خصوصا بتقنية الغطس المضاد – التصوير من تحت لفوق – حيث يبدو الموضوع المصور عاليا، كبيرا ومتغطرسا، سواء كان بشرا / الممثل أم أكسسوارا / الشاحنة.. حتى طريقة حلاقة رأس محمد ممدوح جعلته يبدو مثل مقدمة أو رأس شاحنته!! فكان اختيار المخرجة له في دور السائق موفقا وكأنه فُصِّل عليه نظرا لتركيبته الجسدية الضخمة وملامح وجهه الصارمة. حصل ممدوح على جائزة أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2021.
تأتي بعد هذا الزخم من اللقطات القريبة، نظيرتها المتوسطة التي تؤطر السائق ومساعده الشاب، فالعامة (Larges) وهذه خصصتها المخرجة للطريق من زوايا تصوير متباينة وفي أوقات مختلفة تتوزع بين الليل.. والنهار.. والفجر.. والغروب… أغلب هذه اللقطات بعكس المقربة، مصورة بطريقة الغطس – من فوق لتحت – استعملت فيها الكاميرا الطائرة (الدرون) ولكنها كانت قليلة، مما يسحب بساط البطولة من تحت إسفلت الطريق ليتقاسمه كل من الممثل / السائق أبو صدام الغاضب والصارخ دوما، والشاحنة الهائجة المزمجرة بمحركاتها وأبواقها، دون نسيان عنصر ثالث لا يقل أهمية عن سابقيه ألا وهو: “الموسيقى”.
فالموسيقى التي رافقت الفيلم من ألفه ليائه، معظمها كان منذرا يدعو لتوجس الحدث السيئ قبل أي شيء آخر.. هي موسيقى التشويق والرعب وبشكل مبالغ فيه، حتى تلك التي كانت ترافق اختلاس مساعد السائق – أحمد داش – لأموال هذا الأخير، ثم تراجعه فعودة الاختلاس فالتراجع إلخ… وقد حبلت السينما العالمية بهذه النوعية من الأفلام التي تستخدم شاحنة كبيرة تطارد سيارة أو قطارا هائجا انقطعت فرامله حيث يتم اعتماد اللقطات الجد مقربة للعجلات.. والمكابح.. والمصابيح.. وإشارات المرور.. والوجوه المعفرة بالخوف والعرق والتراب… زائد الموسيقى المرعبة بطبيعة الحال.
6 – المبارزة
أبرز مثال يؤرخ لانطلاق هذه النوعية من الأفلام: (المبارزة) DUEL 1971 لملك سينما الرعب ستيفن سبيلبيرغ صاحب أفلام أسماك القرش والديناصورات والغودزيلّات المفترسة… حيث يحكي الفيلم قصة ديفيد مان، وهو مسافر تجاري من كاليفورنيا يقود سيارة بلاي موث فاليانت، سرعان ما يجد نفسه مطاردًا من سائق غير مرئي لشاحنة بيتربيلت 281 صدئة؟ فتجري الأحداث كلها في هذا الطريق عبر مطاردة شرسة قوامها العناصر المذكورة من حيث نوعية اللقطات والموسيقى والأبواق المنبهة كما المحركات المزمجرة، الشيء الذي يجعلنا وبغير وعي، نغض الطرف أو ننسى الحكاية لنتابع هذه المبارزة غير المتكافئة، ولأنه ليس هناك أصلا حكاية بمفهومها الكلاسيكي.. هي فقط الطريق.. وشاحنة مسعورة وما إلى ذلك من توابل فنية وتقنية.. وعموما فحكاية فيلم (المبارزة) لسبيلبيرغ، مقتبسة عن قصة قصيرة لكاتب السيناريو عينه ريتشارد ماثيسون.
فهذه الخلطة السينمائة إن شئنا التعبير والتي تجمع بين ما هو بشري، تقني، فني وموسيقي… هي ما لمسناه مع “أبو صدام” وشاحنته الهائجين والمسعورين معا، حيث انخسف عنصر الحكاية التي بدت ضامرة. كما تراجعت بطولة الطريق أمام هذه الحدلقات التقنية والفنية، لتجعلنا نتساءل: هل كنا حيال فيلم (أبو صدام) في حضرة: سينما الطريق؟ أم سينما الممثل؟ أم سينما الشاحنات والموسيقى الصاخبة؟؟