نورس البريجة : خالد الخضري
1 – رواية في الشاشة وفيلم على الورق
من بين فقرات الدورة 44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي نُظمت من 13 إلى 22 نوفمبر 2022، فقرة “كلاسيكيات القاهرة” قدمت خلالها باقة من أجود الأفلام العربية والدولية، يعتبر عدد منها تحفا سينمائية، ضمنها فيلمان مصريان ينتمان لسبعينيات القرن الماضي وهما معا باللونين الأبيض والأسود، عملت إدارة المهرجان على ترميمهما: “أغنية على الممر” 1972 لعلي عبد الخالق (1944 / 2022) ثم “يوميات نائب في الأرياف” 1969 لتوفيق صالح (1926 / 2013). وكلا الفليمين سبق لي مشاهدتما، لكني آثر ت إعادة مشاهدة “اليوميات” لاعتبارين مهمين:
أولهما قراءتي للرواية التي عنها اقتبس الفيلم والحاملة لنفس العنوان: (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم، إذ كنت مولعا بقراءة مؤلفات هذا الأديب إلى جانب نجيب محفوظ بالدرجة الأولى ثم إحسان عبد القدوس. ثانيهما بحكم انتمائي واشتغالي في سلك القانون، المحاماة تحديدا حيث كنت أدَوِّن مذكراتي تقريبا يوميا، هذه اليوميات التي أفرزتى سيناريو وفيلم: (ولكم واسع النظر)، ف”يوميات نائب في الرياف ” هي أيضا مذكرات للكاتب نفسه حين كان نائبا أو وكيل دولة في إحدي قرى مصر في ثلاثينيات القرن الماضي خلال تحقيقه في جناية قتل الفلاح قمر الدولة علوان بطلق ناري مجهول.
أهم متعة بصرية وفكرية وفرته لي مشاهدة الفيلم هي: إعادة قراءة الرواية من جديد.. فإذا بي أكتشف شيئا لم أحققه خلال القراءة الأولى لها ولا خلال المشاهدة الأولى للفيلم وهو: إذ وأنا أشاهد النسخة المرممة والرائعة من فيلم (يوميات نائب في الأرياف) بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير، استرجعت أحداث الحكاية التي قرأت وكأنني أشاهدها على الشاشة. وبالمقابل وأنا أقرأ الرواية من جديد اكتشفت أنني أشاهد الفيلم على الورق بين الصفحات.
وهذا راجع لا للنقل الحرفي للمتن الأدبي إلى الشاشة بواسطة المخرج توفيق صالح وأبطال الفيلم، ولكن لجودة الاقتباس الذي احترم روح هذا المتن وأهم رسائله ألا وهي: مناقشة إشكالية تطبيق القانون بطريقة ميكانيكية عمياء على بدو أميين و”ناس غلابة” ليس لهم “لا في في الثور ولا في الطحين” ولا يفقهون بندا واحدا في القانون كما ورد بالحرف في الفيلم والرواية، وإن كان لا يُعذر أحد بجهله القانون. يكفي أن أسوق مثالا حيا واحدا عن هذه الفرضية المربكة إن لم أقل “المغالطة القانونية” والتي عاينت منها الكثير حين مزاولتي للمحاماة هنا بالمغرب في ثمانينينات القرن الماضي:
((نوديتْ على القضية التالية فحضر رجل هرم مقوس الظهر أبيض اللحية يدب على عصا فابتدره القاضي:
- بددتَ القمح المحجوز عليه؟
- القمح قمحي يا سعادة القاضي وأكلته أنا والعيال
- معترف.. حضوري، حبس شهر مع الشغل
- شهر ! يا مسلمين.. ! القمح قمحي.. زراعتي .. مالي.
فسحبه العسكري وهو ينظر بعينين زائغتين إلى الحاضرين كأنما لا يصدق أن الحكم الذي سمعه ليس حقيقي إذ أن أذنه لا شك خانته وأن اليقين عند الناس الحاضرين. فهو لم يسرق قمح أحد، لقد جاءه المحضر حقيقة فحجز قمحه وعينه حارسا عليه حتى يسدد مال الحكومة. ولكن الجوع استبد به وبعياله فأكل قمحه، فمن ذا الذي يعده سارقا ويعاقبه عقاب السارق؟؟ لا، إن هذا الشيخ لا يمكن أن يفهم هذا القانون الذي يسميه لصا لأنه أكل زرعه، وثمرةغرسه. إنه يعرف أن الضرب جريمة والقتل جريمة والسرقة جريمة، لأن في ذلك اعتداء ظاهرا على الغير، ولكن التبديد، كيف يفهم أركانه وحدوده؟ إنما هو جريمة قانونية يظل يتحمل وزرها دون أن يؤمن بوجودها. أسلم الشيخ أمره لخالقه، وتسلمه الحراس وهو يقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله” ! )).
2 – طرافة وحوار واقعي
من أبجديات الاقتباس السينمائي الموفقة التي انتهجها توفيق صالح، الإبقاء على الحوار الوارد بالرواية كما هو حرفيا، وهو حوار دارجي شعبي وصعيدي صرف لم يكن في حاجة لكاتب حوار يعيد صياغته. كما إنه نقل بعض الفقرات من الرواية كما هي سمعيا عبر الصوت الخارجي Voix off والتي يُلجأ إليها عادة للتعبير عما يروج في ضمير شخص من شخوص الفيلم وكأنه يفكر بصوت مسموع مثلما فعل صلاح أبو سيف في فيلم (القاهرة 30) على لسان محجوب عبد الدايم الذي اشتهر في رواية نجيب محفوظ كما في فيلم أبي سيف بتعاليقه الباطنية الساخرة التي تنتهي بلفظة “طز”.
كما ساهم اللونان ألبيض والأسود في منح الفيلم مسحة شاعرية وجمالية توثيثة لمداشر ومساكن الفلاحين الغلابة ولترع النيل ومحطة القطار وفضاءات المحكمة االحقيقية، الشيئ الذي صبغ على العمل ككل طابعا وثائقيا واقعيا وحميميا قلما توفر لدي غيره في معظم الأفلام المصرية. زيادة على هذا شحن توفيق صالح يوميات النائب بشحنة كوميدية هي التي رانت بالرواية رغم بحثها في جناية قتل وغرق وتشريح جثث وبلاوي من غير حساب. مثاله سؤال القاضي لامرأة جيء بها للشهادة عن اسمها، فلما أجابت سألها:
- مهنتك إيه؟
أجابت بسرعة ومن غير تردد:
- – حُرمة يا بيه !!
بل إن توفيق الحكيم عينه كتب الرواية بأسلوب سينمائي تغلب فيه الصورة عن اللفظة والمعنى، إذ وأنت تقرأ – لا أقول تتخيل الأحداث – بل تشاهدها على الورق. مثاله وصفه للأثر الذي خلفته الشابة ريم الجميلة، أخت زوجة الضحية قمر علوان حين نودي عليها للشهادة بمكتب تحقيق النائب، حيث كتب / صور الحكيم المشهد على لسان هذا الأخير:
((تقدمت ريم في حياء، واضطربت خطواتها إذ لم تعرف بين أيدي من من الجالسين يجب عليها الوقوف.. فوجهها العمدة إليّ فوقفت في وجهي ورفعت إلي رمشين.. ولأول مرة يرتج علي في “التحقيق” فلم أدرِ كيف أسألها.. ولم يرها الكاتب فقد كان موقفها خلف ظهره.. فلما لحظ صمتي ظن بي تعبا، فغمس القلم في الدواة ورفع رأسه وهو يسألها:
-اسمك يا بنت ؟
ما إن وقع بصره عليها حتى حملق فيها ولم يعد إلى الورق.. ونظرت حولي فوجدت مساعدي الناعس قد أفاق ونشط وأخذ يرمق الصبية بعينيه الواسعتين. ونقلت بصري إلى المأمور فإذا به الساعة في غير حاجة إلى قهوة ولا إلى بُن. وزحف الشيخ عصفور حتى بلغ موطئ قدمي فأقعى كالكلب ينظر إلى الفلاحة الحسناء فاغرا فاه.. حقا إن للجمال لهيبة…)).
ودائما في سياق هذا التكامل الهارموني بين المصدر الأدبي والطرح السينمائي، توفق الممثلون إلى حد بعيد في تبليغ أفكار التوفيقين:المؤلف والمخرج ولكأن الحكيم فصل أدوار شخصيات روايته على مقاس أبطال الفيلم لا سيما المأمور (توفيق الدقن) و النائب الراوي (أحمد عبد الحليم) مرورا بالقاضي المتعجل دائما (حسن مصطفى) إلى (عبد العظيم عبد الحق) في واحد من أجمل أدواره وأشدها إتقانا وبلاغة: الشيخ عصفور لغز القضية ومفتاحها الغامض والذي صاح منشدا بعد اكتشاف جثة ريم غارقة في النيل:
((ورمش عينها يا ناس يفرش على الميّة
واحدة بياض شفتشي والثانية بلطيـــــة
والثالثة من بدعــــــها غرّقها في الميّة))
وعلى إيقاع قوافيها حاول النائب – كما فعل في البداية – تتبع آثار الجريمة لكن مساعده صده قائلا:
- دي هلوسة مجانين ! .. حنفتح تحقيق بناء على “خطرفة” رجل مخبول في الشارع؟ أظن ندفن البنت وننتهي!)).
وهكذا تنتهي الرواية كما الفيلم بالنائب يدوِّن في ديل المحضرالإشارة المعهودة:
“تحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل”
النهاية
فيما يلي:
- 1- رابط الفيلم على اليوتوب لمن أراد مشاهدته: https://www.google.com/search?gs_ssp=eJzj4tZP1zc0MrJMKqg0MGD0MrrZeLPrZsvNVgUg1XGz9WbXjeU3VincbANSy26sUABJK9xYfrPlxuIbG0GSNxsBJrklBA&q=
- 2 – رابط الكتاب / الرواية سماعيا: https://youtu.be/XHyKoOxQmuE