نورس البريجة: خالد الخضري
(صحاري سَلّم واسعى) هو أول فيلم روائي طويل يخرجه مولاي الطيب بو حنانة انطلاقا من حادثة / حوادث واقعية عاشها والده وأسرته منذ نزوح الاستعمار الإسباني عن مناطقنا الصحراوية لغاية حصولها على الاستقلال. عرض في الدورة 11 للمهرجان الدولي للفيلم الذي نظم مؤخرا بمدينة الداخلة، هذا ملخصه:
“قصة ثلاثة إخوة من مدينة العيون تدفعهم الظروف للقيام بثلاث اختيارات مختلفة إبان خروج المستعمر الإسباني من الصحراء المغربية سنة 1975. اختار الأول الدفاع عن الوحدة الترابية للمغرب، فيما التحقت السالكة بمخيمات تندوف بالجزائر، في حين اختار الأخ الثالث الحياد وفضل العيش وسط الصحراء الموريتانية”.
1 – محليّة صرفة
أهم خاصية ميزت هذا الفيلم هي محليته الصرفة شكلا، مضمونا وإنتاجا، فجل أحداثه تتفاعل في الصحراء الجنوبية المغربية أساسا، وحتى ما يقع منها في مناطق أو مدن مغربية أخرى كالرباط مثلا، فهي ذات ارتباط عضوي وطيد بقضية صحرائنا العزيزة. فالوقائع إذن صحراوية، أبطالها الحقيقيون وحتى الممثلون صحراويون، باستثناء النجمين راوية (الأم غليّة) ومحمد اخيي (بركات) اللذين شرفا الفيلم بأدائهما الجيد كالعادة، كما شرفهما بدوره بالتشخيص في فيلم ذي قضية سياسية محضة تهم أقاليمنا الصحراوية. إضافة إلى الطاقم التقني والفني للفيلم على رأسه السيناريست المخرج والمنتج الطيب بوحنانة، الذي حكى باكيا خلال تسلمه لذرع المهرجان، أنه عاني كثيرا ماديا ومعنويا من أجل إنجاز هذا الشريط / الوثيقة الذي يحكي فيه سيرة والده بالدرجة الأولى.
محلية هذا الفيلم تجسدت كذلك في ألبسة شخوصه كالملحفة والرزّة والدراعية… كما في ديكوراته وفضاءاته الطبيعية وأيضا في عنوانه الذي هو بمثابة حكمة صحراوية عريقة: “صحاري سلّم واسعى” منحته مصداقية تاريخية وواقعية قبل نظيرتها الفنية والتقنية. فمدلوله يحيل على أن الإنسان الصحراوي عليه أن يُسَلِّم، وينشد السِّلم مع “ما” و”من” يصادفه ثم يسعى في أرض الله الواسعة فلا يلقاه إلا خير ثم سِلْم فسلام طبعا. وهذا ما هو حاصل حاليا في أقاليمنا الصحراوية، أفليست المسيرة الخضراء في حد ذاتها أداة سِلمية وفعالة في استرداد صحرائنا مع إثبات السلم والسلام في المنطقة؟
2 – نحن كل هؤلاء
الموسيقى التي وقعها الفنان عثمان الخلوفي والذي اشتهر بمزجه لعدد من الآلات المنتمية لأصناف موسيقية متباينة وبعيدة عن بعضها البعض، تشبعت باللحن والإيقاع الصحراويَين امتزجت فيها نقرات “الگدرة” بنغمات الصاكصفون مرة، ومرة أخرى بنقرات “البندير” لاسيما تلك التي رافقت فرار السالكة حيث ضاعفت هذه النقرات من حدة الشعور بالتوتر والخوف ورفعت وتيرة التشويق.
أسماء الشخصيات، وهم كلهم أبطال بالمفهوم الجماعي النضالي وليس الفردي على طريقة سينما الغرب الذي يهزم فيها شخص واحد جيشا بمفرده؟ هذه الأسماء محلية صرفة: السالكة، غَلِيّة، فاطمتّو، خديجتّو، حَمَّد، اعْمَر.
الحوار الذي اعتمده الفيلم يزكي طرح المحلية هذا بارتفاقه للغة الحسانية التي نادرا ما تخلو من الشعر الحساني كما العربي الفصيح، ومن الأمثال والحكم أيضا مثاله العنوان المذكور. وهذا الأب مولود (محمد الغيث) يجمع أولاده ليوصيهم بالاتحاد والبقاء متلاحمين مع بعضهم البعض حتى يشكلوا ذرعا واقيا صلبا أو قوة يصعب دحضها بعكس الفرد الواحد الذي يسهل هزمه قائلا بالحرف: “إنما ياكل الديب من الغنم الشاة القاصية” أي النائية التي تنفصل عن القطيع أو تبتعد عنه.
وحين طرح أحد الأولاد سؤالا: احنا موريتانيون أو لا مغاربة أو صحراويون؟ كان الجواب شافيا: “احنا كل هؤلاء” المهم أن نعيش بسلم وكرامة ونتحدى الاستعمار والبوليساريو والتفرقة، نهاجر، نغامر، ونبحث ليُكتب اللقاء ويتم جمع الشمل في الأخير كنهاية سعيدة، وإن بدت للبعض مفتعلة خصوصا في طريقة عدم موت اعْمر ولد مولود ولد ابراهيم عند محاولته الهرب من مخيم تندوف. لكني شخصيا أعتقد أنه تعوزها إعادة مونطاج لتُدرج في سياق الأحداث بالمشهد ما قبل الأخير كمشهد مستقل بذاته Séquence clef وليس في جنيريك النهاية الذي لا يكاد أحد يتابعه أو يقرأ كتاباته. إذ هو مشهد محوري فاعل ومؤثر في التركيبة الدرامية للفيلم لا يمكن تجاوزه أو إدراجه ضمن الجنريك.
ورغم أن معظم الممثلين ليسوا محترفين إذ أن معظمهم هواة مسرحيون، فقد أدوا أدوارهم بأحاسيس جلية بفضل إدارة محكمة، وكأن كل واحد منهم يحكي أو يؤدي جزء من سيرته الذاتية، إلى درجة أن الممثل محمد بوالشايت (اعْمر ولد مولود) والذي كان يشاهد الفيلم إلى جانبي لأول مرة، انهمر باكيا وهو يعاين مشهد لقائه بأخويه السالكة بنت اعمر (علية الطوير) وحَمَّد ولد اعمر (يوسف التاقي) حيث امتزج الواقع بالخيال وغدا كل واحد منهما جزء من الآخر مكملا له.
3 – المخرج ابن بيئته
هيمنت الصحراء بتضاريسها المختلفة وِهادا، كُثبانا رملية، خياما، بعيرا، كما في سباتها اليقِظة ليلا تحت قبة السماء المبهّج سواده بالنجوم أو على حد تشبيه شعراء العرب الأوائل لسماء الصحراء والبادية ليلا، بشَعر حسناء فاحم ترصعه جواهر متلألئة. ولتكريس طابع المحلية كان بوحنانة يقطع السرد الوقائعي أو المحكي على ألسنة أبطاله “بلقطات قطع” Plans de coupe تؤطر بعض تضاريس الصحراء في أوقات متباينة ككثبان الرمل في عز القيظ.. غبش الليل.. غروب الشمس.. كل هذا في لقطات يهيمن فيها صمت هادر وفراغ لا متناهي مملوء ترقبا وتشويقا. تم ذلك عبر عدسة مدير التصوير علي بنجلون (نجل المخرج حسن بنجلون). كما أطرت عددا من الإكسسوارت المحلية كالخيام المنسوجة من شعر الماعز. أو بعض الحيوانات كالأغنام والجِمال المبحرة بين أمواج الرمل أو الجاثية أرضا تجتر الكلأ. ولا غرو، فالمخرج كما الشاعر ابن بيئته لم يعمل إلا على أفلمة عالمه وليس مخرجا أجنبيا سواء كان مغربيا أو غربيا يصور فيلما عن أو في الصحراء مثلما فعل الإيطالي بيرناردو بيرتولتشي في فيلم (شاي في الصحراء) حيث بدا “الكارتبوستاليزم” جليا القصد منه إبهار عين المشاهد الأجنبي المتلهف لكل ما هو غرائبي وسياحي دون اهتمام بعمق المحتوى. الشيء الذي أفرغ الفيلم من ثقله المحلي رغم توافر الإمكانيات المادية والتقنية الحديثة.
4 – الوثيقة الروائية
وطبيعي بالنسبة لفيلم منبثق عن أحداث تاريخية أن يُطَّهم بلقطات وثائقية حقيقية بالأبيض والأسود كما بالألوان كانت تبث على شاشة التلفزيون أو صوتية عبر المذياع بشكليهما القديم خلال سبعينيات القرن الماضي، على رأسها الخطاب الشهير لصاحب الجلالة المغفور له الحسن الثاني والذي يعطي فيه الإذن بانطلاق المسيرة الخضراء في أكتوبر 1975، كما بعض التواريخ الحاسمة في نضال المغرب الشرعي والمستميت من أجل صحرائه كقرار الرئيس الموريتاني المصطفى ولد محمد السالك بالانسحاب من الصحراء سنة 1978، انتصار الجيش المغربي بالسمارة العاصمة العلمية للأقاليم الصحراوية سنة 1979. ثم اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى النزاع المسلح بين جبهة البوليساريو والمغرب في سبتمبر 1991… وتم توظيف هذه الوثائق بطريقة سردية تندرج في سياق البناء الدرامي مما خلع عليه مسحة روائية أكثر منها وثائقية.
كل هذا في الأخير أفرز فيلما روائيا صحراويا من فريق صحراوي فنيا، تقنيا وإنتاجيا أدت فيه المحلية دور البطولة المطلقة. ومعلوم أن الإخلاص في المحلية في الأدب والسينما وسيلة ناجعة وطريق مُعبّدة للوصول إلى العالمية. ولعل بداية (صحاري سَلّم واسعى) كانت من بلد اشتهر بصناعة سينمائية كثيفة هو الهند حيث حصل على جائزتيْ أحسن سيناريو وأحسن ديكور خلال الدورة الخامسة عشرة للمهرجان الدولي للفيلم بجايبور بالهند في يناير من هذه السنة 2023، قبل أن يتوج بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة 11 للمهرجان الدولي للفيلم الذي نظم مؤخرا بمدينة الداخلة من 2 إلى 8 يونيو 2023.
* تصوير: محمد الكنتاوي