نورس البريجة: خالد الخضري
عُرض في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم المنعقد حاليا بطنجة، الفيلم السينمائي الروائي الطويل (التدريب الأخير) للمخرج ياسين فنان الذي غاب عن الساحة لأكثر من 10 سنوات، وهو أول عمل ذي إنتاج مستقل من طرف نادر فجاج عن طريق شركته “مروكو فيلم ميكرز”.
تتمحور أحداثه حول فرقة مسرحية تتمرن التمرين الأخير على مشهد مقتبس من مسرحية “الخادمات” لجون جينيه. مخرج المسرحة نبيل – وهو الاسم الشخصي لبطل الفيلم والمساهم في كتابة السيناريو إلى جانب أميمة بوزيد، نبيل المنصوري – الذي يشعر بالتوتر ويتناول مضادات الاكتئاب، يظهر كيفية الخنق يزداد ارتباكه مع اقتراب موعد العرض، على الرغم من دعم المقربين منه. يفقد نبيل إدراكه للواقع، يهلوس، ويتواصل مع طفل خيالي. ينجح العرض، لكن نبيل يغرق بشكل مأساوي في الجنون.
حاز العمل على جائزة في سوق السنيما الأردني 2024.
قد يبدو الفيلم من الوهلة الأولى مسرحية مصورة على أديم خشبة لكنه ليس كذلك، هو تصوير لا لمسرحية ولا لأحداث حركية سينمائية بقدر ما هو “أفْلمة” لحالات نفسية معقدة يتحكم فيها الوعي واللاوعي، ولعلاقات إنسانية مركبة ومواقف وسلوكات بشرية يمتزج فيها الإيجابي بالسلبي، الواضح بالمرموز والمحسوس في آن واحد، بطلها أو محورها مخرج قد يبدو مجنونا أو عبقريا، واقعيا منطقيا مع نفسه والغير أو متناقضا مهلوسا، لكنه على كل إنسان تشتعل في رأسه وتغلي قضايا متشابكة عليه أن ينفذ منها دون أن يحترق أو يحرق من معه من بقية طاقم مسرحيته كما عائلته، مثلما هو باد في ملصق الفيلم حيث غطّت شعلةُ نار خصلةً شعر فوق رأس نبيل، دون أن يكف هذا عن طلب المسامحة من كل من أساء إليه في حينه، مقبِّلا الرؤوس واحدا تلو الآخر حيث لم يبق له إلا تقبيل رأس كلب الحارس الذي كان يلقي له بطعامه مما يحيل على طيبة قلبه وصفاء سريرته.
عمليا فرض فضاء الأحداث المغلق بقاعة المسرح بما فيها من كواليس، ركح، صالة، قمطر فني وتقني اعتماد الحوار بشكل مكثف لكن دون أن يسقط العمل في شرنقة المسرح واستظهار الحوار، حيث حلت السينما بثقلها التقني والفني بارتفاق اللقطات الجد مكبرة Très gros plans حيث تملأ الشاشةَ عن آخرها، عينُ المخرج أو جزء من أذنه أو شفتيه وهما ترتعدان. وحيث يعلو الصراخ حتى يصم الآذان ليتلوه صمت طويل لكنه هادر دون تغيير لا زاوية التصوير ولا الكادراج ولا الحركة، أي لقطة ثابتة تجبرك على تملّي الصورة والتفاعل مع منطوقها عن آخرها، والأمثلة كثيرة منها ما كان ينفجر من شجار بين الممثلين بعضهم البعض، أو بينهم وبين المخرج. وأيضا ذلك السباب والقذف الجارح الذي تشظّى بين نبيل وصاحب المنزل الذي يكتريه منه، فحل بالقمطر الفني للمسرح مطالبا نبيل وبصراخ عنيف، بأداء أجرة الكراء كاد يصل إلى العراك لولا تدخل مساعد المخرج ابّا عبد الله (عبد الإله عاجل) ملتزما بأداء هذا الدين على مسؤوليته ليصرف المؤاجر الذي يأبى وهو يغادر إلا أن يرمي بقذيفة في وجه نبيل:
- ” بقا ليك ع الإخراج؟ فقير وباغي تطّير؟!!”
كما حلت السينما عبر ميكانيزمات أخرى منها:
– البريوطاج الذي ران على العمل خصوصا في اللقطات الساخنة أو المتوترة، والذي انتقل بين الأزيز والطنين والصفير وارتطام كرة سلة بالأرض من طرف طفل صغير ذي نظرات حارقة والذي لم يكن سوى ضمير نبيل أو صوته الداخلي وكان ينعته ب “البرهوش”. فكل هذه المؤثرات كانت مزعجة إن لم أقل مستفزة.
– الإنارة والتي تدرجت بين البني الداكن والأحمر القاني إلى الأسود القاتم مما ساهم في خلق ذلك الجو النفساني المكهرب الذي يعيشه نبيل داخليا في دماغه فيعكسه دون شعور في الفضاء الداخلي للمسرح ولدى المتفرج بطبيعة الحال. اللقطات والمشاهد القليلة التي يتبخر فيها التوتر، يخبو الغضب ليحل بدله بعض الانفراج، هي تلك التي كانت تصور خارج المسرح بالشارع في وضوح الشمس على خلفية سوره حيث يهيمن اللونان الأزرق والأبيض الفاتحان، مما كان يمنح فترة استراحة بالنسبة لطاقم المسرحية على رأسه المخرج، حبيبته، ومساعده حتى حارس أو بواب المسرح مع كلبه. نفس الشعور بالانفراج كان يسري على المتفرج بالتالي لأنه قد يزهق من الإغلاق عليه في فيلم ظلامي داخل قاعة مكهربة تقنيا ونفسانيا.
– الميكانيزم الثالث والمهم الذي ساهم إيجابيا في (التدريب الأخير) ذو طبيعة بشرية فنية هو التشخيص، المسرحي هنا بالذات فوق الركح وأمام الكاميرا والذي اضطلعت به تلة من نجوم الخشبة وخريجي المعاهد على رأسهم عبد الإله عاجل، حسناء طمطاوي، جميلة الهوني، نبيل المنصوري، جمال العبابسي، هند بلعولة، وحسن فولان وإن بدا في دور صغير في متم الفيلم لكنه مقنع كبقية زملائه. كما أنهى ياسين فنان الفيلم بطريقة مسرحية حيث قدم الممثلين مع أسمائهم وسط ديكورالخشبة على هدي موسيقى بيانو هادئة وتصفيقات الجمهور بطبيعة الحال.