
نورس البريجة: خالد الخضري

1- لوثة حب
عُرض في إطار المسابقة الرسمية مساء يوم الخميس 28 غشت الجاري بمهرجان “سينما الشاطئ” المنظم حاليا بالهرهورة، فيلم (جلال الدين) للحسن بنجلون، بطولة: ياسين أحجام، عز العرب الكغاط، نسرين جوليا، فاطمة الزهراء بلدي، مليكة الحماري، أيوب اليوسفي والممثلة التونسية فاطمة ناصر. تكلف بمهمة تصويره نجل المخرج رضا بنجلون، حوار التوفيق حماني كما أدى دورا صغيرا وهو ذو محيّى سينمائي جدير بالشاشة المغربية أن تستغله. في حين ألف موسيقاه المخرج كمال كمال فأبدع كعادته بصفته موسيقيا عملا أوركسرتراليا، ساهم إلى حد بعيد في تزكية الطرح الموضوعي والروحاني للفيلم الذي اقترحه للفيلم لا سيما في القطعة الأندلسية الأخيرة (الفياشية) كما فعل مع قطعة (دارت بنا الدورة) “لجيل جيلالة في فيلمه “السنفونية المغربية”.
تتمحور وقائع الفيلم حول شخص “جلال الدين” الذي لا يستطيع تحمل موت زوجته، فيقرر العزلة لينتهي به المطاف معلما ومرشدا صوفيا في إحدى الزوايا قبل أن يلتحق به حفيده الذي جاء حائرا يبحث عن الحقيقة وعن المغزى من جوده فيرد الجد:
“الحقيقة يا بني مرآة سقطت بين يدي الله فتهشمت وتطايرت شظايا، كل من يلتط شظية يعتبرها حقيقة مطلقة” أما عن سر الوجود ومغزاه فيرد:
“كلنا جئنا جميعا من أجل هدف واحد هو البحث عن الحب”
وفعلا يعبق الفيلم في مجمله بتيمة الحب بمفاهيمها الروحانية، المادية والواقعية أيضا لتشمل: العشق والتسامح والأخوة والنبل والزهد في الماديات وشهوات الدنيا فلات يلبث ينصح مريديه:
“كن مسلما أو يهوديا أو نصرانيا.. كن بوذيا أو حتى بلا دين، فالسكينة والمحبة والأخوة هي التي تجمعنا”
ثم تراه وتسمعه يلقن تعاليم الحب في دروسه كما في جلساته الثنائية وحتى في حلقات “الجذبة” أو “الزّار والتّحيار” والمريدون المغاربة يجذبون وهم يذكرون الله عبر إيقاع حركي وصوتي متصاعدين: “الله حي.. الله حي.. الله حي….” أو حلقات ذكر وجذبة المشارقة المطربشين (الدراويش) وهو ثراث عثماني لا زال قائما بكثافة في تركيا وبعض الدول الأسيوية المسلمة، حيث يعتمر الدرويش أو الراقص المجذوب طربوشا طويلا وسترة ضيقة من فوق وفضفاضة من تحت تتطاير في الهواء من شدة الدوران، رافعا يده اليمنى نحو السماء بينما اليسرى نحو الأرض، فيشرح جلال الدين ذلك لحفيده بأن اليد العليا تتلقى الرحمة من الله واليسرى تبسطها على الأرض.
بل وحتى في خلوته وهو يهجع الشيخ بعيدا في دواخل نفس لا يفتأ يعلن الحب على نفسه وعلى ما ومن حوله:
“الحب تدبير الأخذ والعطاء.. في حبه تعلمت أن أحب من يكرهني وأحب من يحبني.. في حبه لا ظن ولا يقين.. لا حجاب ولا وسيط.. في حبه تعلمت الهداية.. بفضلك أدركت أنني قطرة من بحر وبحر من قطرة.. بفضلك أدركت أنني كل شيء ولا شيء.. وأن أسرتي هي الإنسانية جمعاء.” حتى يخال للمتلقي أن الرجل مصاب “بلوثة حب” او “صعقة عشق” لكنه لا يدرك هل المحبوب أو المعشوق بشرا؟ إم إلها؟ أم روحا؟ أم وهما؟ أم حبا في حد ذاته؟ أم لذاته؟؟
وهذا منتهى التصوف حين تنصهر ذات المحب بذات المحبوب وتذوب فيها، ولعل في قول الصوفي الشهير الحلاج لمريديه: ” معبودكم تحت قدمي وأنا الله” خير دليل، مما جر عليه حكما بالإعدام وحين نُفّذ اكتشفوا أنه كان يقف فوق رزمة نقود هي المقصود بها معبود العامة. لذا يتطلب من المتلقي السامع والمشاهد والمريد لجلال الدين سواء بالفيلم أو في كتب ومؤلفات الصوفي الحقيقي على السواء، أن يكون ملما باللغة العربة، عاشقا لها وسابرا أغوار جمالياتها: “أنا البحر في أعماقه الذر” وكيف لا وهي لغة القرآن؟

2 – “أدنيتك مني حتى ظننتك أني”
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى عنصر الحوار الذي صاغه السيناريست الزميل والصديق التوفيق حماني والذي أكيدا جعله يبحث في مؤلفات الصوفي جلال الدين الرومي، حتى تم الاعتقاد أن الفيلم يدور حول هذه الشخصية شبه الأسطورية في عالم الزهد والتصوف. فبغض النظر عن هل تلك الحوارات هي أصلا من صلب الصوفي المذكور أم هي اجتهاد شخصي من كاتب الحوار الذي جدّف في ذات الرافد الصوفي العابق بالروحانية والاستيهامات الفكرية التي تتطلب “الإصغاء” والتركيز وليس فقط السمع والفرجة؟
اضطلعت بأداء الأدوار باقة من الممثلين المتمكنين والمتمرسين على راسهم عز العرب الكغاط بهيأته الروحانية أصلا وصوته الغائر وكأنه من جوف بئر ينبعث،. بنفس القوة والتمكن شخّص ياسين أحجام دور جلال الدين وكأنه فُصِّل أو كتب من أجله فأقل ما يقال عنه، هو ما ردده هو نفسه على لسان الشيخ عينه: “أدنيتك مني حتى ظننتك أني”. هذا لا ينفي طبعا كفاءة بقية الممثلين الذين توفق حسن بنجلون في اختيارهم وإدارتهم وقد أضحت له معرفة ودربة في عنصر الكاستينغ بفضل تجربته السينمائية الطويلة.



