
نورس البريجة: خالد الخضري

حصل فيلم (أبي لم يمت) من إخراج عادل الفاضلي على الجائزة الكبرى في الدورة السادسة لمهرجان “سينما الشاطئ” الذي أخمد آخر كاشف له ليلة السبت 30 غشت 2025 بالهرهورة، ويتناول حكاية الطفل مالك الذي يعيش مع والده المهدي في مدينة ملاهي “سيرك” حيث يقومان بأعمال الصيانة. في أحد الأيام، قدم مهدي لابنه خمس لوحات من تلك التي كنا نعاينها في صغرنا خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وكانت تعرض قصصا دينية وأسطورية مثل قصة سيدنا إبراهيم وهو يهم بنحر ابنه قبل أن يمده الملاك بكبش، ومثل مبارزة السيد علي لراس الغول وذي القرنين إلخ…. الشيء الذي جعل الابن ينبهر بهذه الأعمال وبجمالياتها فيسرح فيها ومعها بخياله ليصبح عنصرا بين بقية عناصرها. وفي يوم موالي، يجد الأب والابن نفسيهما صدفة وسط تجمع سياسي حيث تعرض مهدي للعنف أمام مالك من قبل شرطيين اتهماه بالدعاية ضد الحكومة. كما اقتحمت الشرطة في يوم لاحق الملاهي واعتقلت مهدي. مصدوما، بدأ مالك في البحث عن أبيه بمساعدة بقية رجال السيرك، وتمكن من إيجاد إجابات في اللوحات التي تركها والده.
1 – الملك في القمر وإلى مْشات رْجل تْجي رْجل
سبق لتيمة السيرك أن تنوولت في أفلام مغربية لكنها قليلة: (يوم جوال) أو(الناعورة) إخراج مشترك بين إدريس الكتاني ومحمد عبد الكريم الدرقاوي 1984 – (باي باي السويرتي) إخراج داوود اولاد السيد 1998 – بل وحتى في فيلم (وشمة) لحميد بناني 1970. لكن جميع هذه الأفلام وغيرها قاربت هذا الموضوع باحتشام دون أن تتغلغل في عالم مدينة الملاهي مثلما حصل مع الفيلم موضوع القراءة، حيث تفاعل معظم وقائعه في فضاء هذه المدينة المشتعلة بدءا من “موطور الخطر” مرورا بمسرح الشيخات، والوحش الآدمي، وحلقات الملاكمة إلى الحواة والسحرة الذين ينفثون النار من أفواههم أو يجازفون بحياتهم وأعضائهم وهم يتلاعبون بالعصي والسكاكين فقلّ من نجا منهم من أخطار هذه المهنة مثلما حدث لعبد الغني الصّناك حين أولج سكينا حقيقيا في رجله بسهو من مالك الذي أمده به بدل أن يعطيه السكين الخشبي كما أمره، ورغم ذلك ظل عبد الغني يصرخ والدماء تنزف منه:
“ ولا مشات رجل تجي رجل أخرى”
وتمضي رحلة الصبي مالك – وسُمي كذلك تيمنا بملك البلاد المنفي محمد الخامس – الذي بدا للمغاربة في القمر كما صوره الفيلم من وجهة نظر صاحب السيرك حكيم، والذي أدى دوره بامتياز المرحوم عزيز الفاضلي. وهكذا نسرح مع عادل الذي قد يكون الفيلم مستوحى من سيرته الذاتية ولا ضير في ذلك، فمعظم جيل الستينيات والسبعينيات حتى التسعينيات عاش وعايش الأحداث المختزلة في الفيلم منذ رجوع ملك المغرب من المنفى وحصول المغرب على استقلاله فوفاته، ثم تولي المغفور له الحسن الثاني المُلك من بعده وما تفاعلت به البلاد من أحداث على رأسها سنوات الرصاص التي استحضرها الفاضلي بشكل حميمي وحنيني يجعلنا نشعر بالحنين إليها والعودة لفضائها، رغم قسوة الوضع السياسي آنذاك وما حبل به من قمع واعتقالات واختفاءات ومحاكمات صورية،منستحضرا ذلك بواسطة متن حكائي مُحكم جسده كاستينغ منسجم، وأيضا عبر عدة آليات فنية منها الديكورات الخارجية الحقيقية من مباني قديمة ذات طراز أوربي بناها المستعمر الفرنسي بالدار البيضاء مسرح الأحداث، وكذلك المشيدة داخل استوديو كبير ضمنها مدينة الملاهي بكافة مرافقها الفرجوية.
فالديكورات الداخلية وما عبقت به من أكسسوارات كالغرامافون والورق المرسوم الذي كانت تزين به الجدران في تلك الحقبة، والسيارات العتيقة كما اللباس وطريقة الحلاقة لدى الرجال والنساء على السواء، فالأغاني والموسيقى الأفلام المصرية التي رانت في نفس المرحلة: (فاطمة) أم كلثوم و(يوم سعيد) محمد عبد الوهاب، وكانت تعرض بالقاعات السينمائية وضمنها سينما “الكواكب” التي أعاد عادل الفاضلي تشكيل واجهتها كما كانت على واجهة سينما “ريالطو”، مما ينم على مجهود ليس بالهين لإحياء وخلق جو تلك المرحة بمختلف مظاهرها.
2 – النشاط والخطر مع موطور الخطر
تجدر الإشادة بالموسيقى التي وقّعها الفنان عبد الفتاح النگادي والتي عملت على تأثيث فضاء الحكايا بقطع تمتح من التراث الشعبي كعيساوة، وگناوة وخصوصا العيطة التي مزجها مع زمجرة دراجة جدار الموت النارية أو (موطور الخطر) لتصعيد الشعور بهول الموقف والحالة النفسية التي يعانيها الطفل مالك كما سائق الدراجة الثوري عَلي، نسبة إلى “عْلي بلحُسين” الذي كان مشهورا بممارسة هذه الرياضة الانتحارية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وجسد دوره عبد النبي البنيوي بحِرفية بيّنة تذكرنا بنفس الدور، وبالضبط اللقطة التي كان يؤديها المرحوم محمد الكغاط في فيلم (وشمة)، مما يمكن اعتبار هذه اللقطات تكريما له حتى دون أن يقصد المخرج ولا الممثل ذلك.
وهكذا تصاعد إيقاع الموسيقى وارتفع النشاط في المشاهد الساخنة بمسرح “الشياخ والشيخات” وفي المظاهرات، في حين رانت الموسيقى الهادئة التي تمتح من الريبيرتوار الكلاسيكي والسيمفوني ذات الإيقاع البطيء ناح فيها “الفيولاصيل” كثيرا في المشاهد الحميمية لا سيما تلك التي يسرح فيها مالك بخياله، تأملاته أو تفكيره في والده المختفي، فنتعاطف ونسرح معه وكأننا نتابع الأحداث من خلال عينيه وأحاسيسه وخيالاته الواسعة رغم أنه كان أبكما، لكنه يتكلم داخل مشاهد الحلم والخيال مع السيد علي وذي القرنين وسيدنا إبراهيم، ويسأل إلى أن ينطق في متم الفيلم – خارج الحلم – من حر المعاناة وفقد الوالد صارخا بأن أباه لم يمت وسيواصل البحث عنه.
كما وظف الفاضلي مقاطع شعبية مع ثنائيات حقيقية (الثنائي سعيد العيساوي) وكذلك فرق “ربايْع” مثل تلك التي أدت جزءا من أغنية “يا خربوشة ويا زروالة يا الكريدة يا العبدية.. وراكي حرة وشريفية بلهلا يگزيه لولد الثمرية.” الواردة بفيلم (خربوشة) الذي كتبت سينايروه وكلمات أغانيه من بينها هذه القطعة، وهو من إخراج حميد الزوغي.
دائما أكتب وأصرح أنه من أهم العناصر التي تشد المتفرج المغربي إلى الدراما المغربية في كلا الشاشتين وحتى فوق الركح هو عنصر “التمثيل”، فكلما كان الكاستينغ محكما زائد إدارة الممثلين من طرف المخرج طبعا، كلما كان الإقناع قويا ودرجة الفرجة عالية، وهذا ما لمسناه في (أبي لم يمت) الذي اضطلعت بتشخيص أدواره نخبة من أشد الممثلين كفاءة وإقناعا: محمد اخيي، فاطمة عاطف، نادية كوندة، عمر لطفي فوزي بنسعيدي الذي لم ينطق بحرف واحد لكنه بهندامه، قامته الفارهة، ونظراته النارية جسّد دور الشرطي السري أو الجاسوس بمهنية عالية – هو خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، شعبة التشخيص إلى جانب عبد النبي البنيوي وعبد الغني الصّناك – وكذلك الطفل آدم رغال الذي حصل على جائزة أحسن ممثل في الدورة 24 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة 2024 والذي أبان بدوره عن كفاءة متميزة في فن التمثيل، إضافة إلى نجم “الراب” توفيق حازب الملقب ب”دون بيغ” والذي ناسبه الدور شكلا، هنداما وقذفا عفوا قولا. دون نسيان طبعا الفنان المرحوم عزيز الفاضلي والد المخرج، وكان هذا آخر أدواره على الشاشة. وخيرا فعل عادل بتوثيق هذا الفنان الظاهرة في المشهد الدرامي المغربي، حتى ظن كثيرون أنه يعنيه بعنوان الفيلم (أبي لم يمت) لكن المخرج نفى ذلك مصرحا أنها مجرد صدفة وهي صدفة إيجابية ومكملة للطرح الفيلمي على أية حال.




