
نورس البريجة: خالد الخضري

حصل الفيلم الوثائقي السعودي (ضد السينما) للمؤلف والمخرج علي سعيد، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة “جائزة صلاح أبو سيف” في مسابقة آفاق السينما العربية للأفلام الطويلة بالدورة 46 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير. ويتناول قصة السينما السعودية كما السينما في السعودية على امتداد مائة سنة من 1918 إلى 2018، عبر تشجيع جيل أطفال ثمانينيات القرن في غياب القاعات السينمائية ليواجه الكثير من التحديات في بيئة مضادة للسينما. مدة الفيلم 116 دقيقة وهو من إنتاج شقيق المخرج التوأم حسن سعيد ومحمد عابد الهادي.
1 – الكتابة بالكاميرا
أورد المخرج في مستهل الفيلم عبارة مكتوبة عبر فيها عن ذاته وعن مساره الانتقالي من “سواد ما يقال إلى ما لا يقال” أي من عالم الكتابة إلى عالم الصورة قائلا: ((بين ما يقال وما لا يقال، تولد الحكاية، وبين ما يُرى ولا يُرى يولد الفيلم)). فمن هذه العبارة يتبين لنا أول خيط لعمل يوقّعه كاتب أو أديب يُؤَفْلِم بدل أن يكتب، أو بصيغة أخرى يكتب بالكاميرا. فالرجل عرك ميدان الصحافة المكتوبة لسنوات طوال فصاغ المقالة والقصيدة والقصة القصيرة، ثم دفعة واحدة قرر أن يضع القلم جانبا ليمتشق الكاميرا لتقديم حكاية عمرها مئة عام، في فيلم تقارب نسخته الأصلية ثلاث ساعات ربما لو فعل ذلك على متن الورق لتجاوز العدد ثلاث مجلدات.
يتكون أي بحث ميداني على عنصرين أساسين يتجسد أولهما في التحدي الذي يواجهه أيا كان ميدان بحثه، ألا وهو الصعوبة المتمثلة في عدة عناصر: غياب المعلومة، ندرة المصادر، تشتتها، واختفاؤها بشرية كانت أم مادية أو تقنية، قوانين وإجراءات إدارية عقيمة للحصول على إذن بالبحث إلخ… وهذا ما عاناه المخرج الباحث علي سعيد بالتنقيب في الأرشيف والمقابلات مع سينمائيين ومشغِّلي آلات العرض السينمائي بعضهم لا زال يعمل والبعض الآخر توقف لوفاة أو مرض أو شيخوخة وعجز:
– عبد الله المحيسن مخرج فيلم (اغتيال مدينة) 1977 – سعد خضر، مؤلف ومنتج أول فيلم سعودي روائي طويل تحت عنوان (موعد مع المجهول) أخرجه المصري نيازي مصطفى واستخدمت فيه الهيلوكوبتر في التصوير سنة 1981- ممدوح سالم ممثل، مخرج، منتج مسرحي وسينمائي ومؤسس أول مهرجان سينمائي سعودي عام 2006 “مهرجان جدة للأفلام” – أحمد الملّا، شاعر ومثقف، يعد أحد روّاد صناعة السينما في المملكة العربية السعودية بتأسيس وإدارة “مهرجان أفلام السعودية” الذي انطلقت دورته الأولى سنة 2008 – هيفاء المنصور، أول امرأة سعودية تخرج أفلاما يهتم أغلبها بقضايا المرأة، من أبرزها (وجدة) سنة 2012، ويعتبر أول فيلم روائي طويل يتم تصويره بالكامل في المملكة العربية السعودية.
• فهؤلاء وغيرهم كما التعاليق الواردة بالفيلم، قدموا فكرة عامة وجلية عن الفن السينمائي بالسعودية الذي اعتبر في بدايته “رجس من عمل الشيطان” فحرّموه وطردوا بعض رجال الأخوين “لوميير” الذين عرضوا شريطا سينمائيا سنة 1918 في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، تظهر به نساء فرنسيات يلبسن لباسا (غير محتشم) ، شعورهن سافرة ويدخنون السجائر. واستمر المنع لسنوات طوال، بل حتى أولي الأمر منهم فيما بعد، وهم يأذنون بتنظيم مهرجانات سينمائية، منعوا في البداية كلمة “مهرجان” فتم تعويضها ب “مسابقة الأفلام السعودية” ثم بعد أن سمحوا بإدراجها، صادروا أو منعوا كلمة “سينما” فكنا نجد: – مهرجان جدة للعروض المرئية – مهرجان جدة للأفلام – مهرجان الفيلم السعودي – مهرجان الشباب للأفلام.. حتى قاعة العرض السينمائي أسموها ” قاعة المسرح” وليس السينما.
بالإضافة إلى الشهادات الحية من شخصيات سينمائية ومثقفة سعودية من أجيال واختصاصات متباينة عايشت الفعل السينمائي من الداخل بين مده وجزره وبين عرضه ومنعه، لجأ المخرج أيضا إلى التنقيب عن بقايا دور سينما مهترئة أو زائلة بالكل، حيث كانت تعرض الأفلام القديمة – ما يسمونه هناك ب “الأحواش” – مفندا مقولة الناقد والباحث السينمائي الفرنسي “جورج سادول” الذي قال إن السعودية هي البلد العربي الوحيد الذي ليس فيه سينما لغاية عام 1965، بتقديم شهادات حية ووثائق تثبت أنه كانت هناك صالات سينمائية في نوادي الرياض ومنها نادي الهلال قبل هذا التاريخ بكثير. كما عمد إلى التدقيق في الكتب والمخطوطات وفي أشرطة الأفلام المتلاشية أو المعطوب جلها حيث توجب عليه ترميم بعضها ومشاهدتها كلها لتوظيف مقاطع منها في فيلمه.
2 – مع السينما
فعل علي سعيد هذا عبر سرد سينمائي وإن هيمنت عليه الوثيقة سواء السمعية البصرية أو فقط السمعية كما المكتوبة، إلا أن رصّها في قالب روائي وأحيانا تخييلي يغني الصورة المؤفلَمة كما فعل حين تحدث عن سنة سينمائية قاحلة فأطر شجرة جرداء مقفرّة كليا من أوراقها، أو حين بكت المخرجة التي علمت بإلغاء “مهرجان جدة السينمائي الرابع” في يومه الأول بأمر من السلطات، ثم قامت ذاهبة فأطرت الكاميرا في لقطة جد مقربة هاتفها الذي تركته فوق كرسي وهو في وضع هزّاز يرن لمدة طويلة دون جواب وكأنه ينتحب.
وأحيانا تبدو اللقطات لا نقول “تخييلية” بل إبداعية، أن لا علاقة لها بما هو باد على الشاشة، لكنها حلت لتكسير السرد الشفوي كتأطير مشهد غروب خلاب، أو طريق طويلة تمخر عباب صحراء لا متناهية، أو موج بحر متلاطم… مما يخلق علاقة وجدانية بين المحكي والمرئي من داخل المحتوى وليست عضوية من خارجه، الشيء الذي جنب الفيلم السقوط في شرك أو متاهة السرد التسجيلي الجاف الذي يشعر المتلقي بالملل حتى ولو كانت مدة الفيلم قصيرة.
كما كان يطعم حكيه بتعاليق شخصية مصورا ذاته، تجمع بين الحس الصحفي والسرد الروائي مما يجعلنا نتماهي مع حكاية السينما في هذا البلد دون ملل رغم طول مدة الفيلم التي قاربت الساعتين، فلا تملك إلا أن تتعاطف مع أهلها حتى الذين عارضوها فسرى عليهم عنوان الفيلم “ضد السينما” سواء من الجهات الرسمية أو من بعض الجمعيات أو التيارات الدينية مثل “جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
في هذا السياق كان من الأنسب أن يُمنح للفيلم عنوان آخر لأنه عج بأناس ليسوا كلهم ضد السينما، بل إن أكثرهم إن لم اقل كلهم، ساندوا الفن السينمائي وناضلوا من أجل ترسيخه إلى أن انتصروا ففتحت قاعات سينمائية بالمملكة العربية السعودية، ونظمت مهرجانات وأينع مخرجون ومخرجات نالوا جوائز داخل وخارج الوطن، فتُوِّج نضالهم بإنشاء “بيت السينما” في 18 أبريل 2018 وهو مركب سينمائي عصري بالرياض يضم 3 قاعات مجهزة بأحدث الآلات ووسائل الراحة والفرجة السينمائية الرائقة.
فهؤلاء جميعهم “مع السينما” وليسوا ضدها. لذا كان من الأنسب أن يحمل الفيلم عنوانا مغايرا مثل: “السينما بين الرفض والقبول” أو “بين المد والجزر” أو” السينما نعم أم لا ” إلى غير ذلك من هذه العناوين التي تجمع بين التيارين المتناقضين اللّذين اشتغل عليهما الفيلم برمته منتهيا بانتصار التيار الإيجابي “نعم للسينما” والفيلم موضوع القراءة هذه نموذج حي منه.
لكن عموما وبناء على ما سبق، ومما راكمه وعرضه علي سعيد من وثائق وشهادات حية من هؤلاء الشخصيات هي في حد ذاتها أفلام تسجيلية توثق ملامح وسحنات المُدْلين بها، أخرجها من ظل الأرشيفات وعتمتها ليمنحها تأشيرة مرور إلى بؤرة النور لتستمر امتدادا طبيعيا لذاكرة الإنسان، والمكان والزمان التي هي السينما. فبها وبتوثيق الفضاءات والمهرجانات واللقاءات واللقطات الوثائقية العتيقة بالأبيض والأسود والملونة، وصل المخرج الباحث إلى العنصر الثاني من تركيبة البحث الميداني ألا وهو: المعلومة والمتعة وهي التي اقتسمها معنا في فيلم (ضد السينما).



