نورس البريجة: خالد الخضري
برمج مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 45 الحالية 14 فيلما ترجع لعقود الخمسينات وستينيات وسبعينات القرن الماضي وتعتبر من كلاسيكيات السينما المصرية تم ترميمها. أول هذه الأفلام تم عرضه يومه الخميس 14 نوفمبر في سينما الهناجر.
الفيلم مقتبس عن رواية بنفس العنوان للأديب نجيب محفوظ وإخراج صلاح أبوسيف. إنتاج – 1960 130 دقيقة سيناريو: صلاح عز الدين وصلاح أبو سيف – حوار كامل عبد السلام وأحمد شكري – تصوير : كما كريم- ديكور: حلمي عزب -موسيقى :فواد الظاهري – مونتاج :أميل بحري – إنتاج: دينار فيلم – تمثيل : فريد شوقي، عمر الشريف ،أمينة رزق، سناء جميل، صلاح منصور ( جائزة الإخراج الأولى بالقاهرة سنة 1962).
1 – “أنا نجيب محظوظ السينما”
.قال صلاح أبو سيف عن فيلمه هذا أنه قرأ الرواية وأعجب بجوها وأبطالها، أسرة مصرية فقيرة يموت عنها الأب فتواجه الحياة وصعوباتها بوسائل جد متواضعة في حارة شعبية. وتجدر الإشارة إلى أن صلاح تربى ونشأ تقريباً في نفس الظروف في بداية طفولته، حيث تخلى والده المزواج عن والدته التي فضلت أن تعوله بمفردها في ظروف جد مقترة في حي بولاق الشعبي. ويوكّد أنه عندما قرا هذه الرواية وجد أن نجيب محفوظ لا يقل واقعية عن ديستوفسكي ولا عن زولا. لذا أعجب بها وقرر تحويلها إلى السينما .وهذا نجيب محفوظ نفسه صرح ذات مرة قائلا:
((أعترف بأن السينما قد رسمت موضوعاتي الروائية ورويتي الفنية ولولا أن أعمالي الروائية لم تنقل إلى الشاشة الكبيرة لما اشتهرت تلك الأعمال بهذا الشكل الواسع. أنني اعتبر نفسي نجيب محظوظ السينما…)) *(1). ولا ريب في أن فيلم “بداية ونهاية” كان له فضل كبير في التعريف وإشهار العمل الأدبي الأصلي. كل هذا يودي بنا إلى نتيجة مهمة تؤكد متانة العلاقة بين الأدب والسينما متى أحسن التعامل والتعاون.
“تدور أحداث الفيلم حول أسرة مصرية تنتمي للطبقة الوسطى، يقف أبنائها في مفترق طرق بعد ضائقة مالية
تحيط بالأسرة عقب وفاة الأب. وبينما يتخرج الابن الأوسط من كلية الشرطة، يتجه الأخ الأكبر لتجارة المخدرات بحثا عن المال،فيما تسقط الابنة الوحيدة في مستنقع الرذيلة”.
2 – أمانة التعامل بين الرواية والفيلم
يتجاوز عدد صفحات رواية “بداية ونهاية” 300 صفحة ومع ذلك استطاع صلاح أبو سيف أن ينقلها بأمانة إلى الشاشة في ظرف ساعتين و 10 دقائق. بل أنه أعطاها من إبداعه الفني ما جعلها تفجر ما كان مسكوتا عليه. فلم يلاحظ هناك فرق يذكر بين الرواية و بين السيناريو إلا في الأخير. وعلى أي، فهو فرق له ما يبرره من طرف المخرج، ويتعلق الأمر بالخاتمة المأساوية التي انتهى إليها الضابط حسين ألا وهي انتحاره بقفزه إلى النيل، في حين نجد نجيب محفوظ ينهى روايته على الشكل التالي:
((بلغ حسين الموضع نفسه من الجسر، فارتفق السور وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج واصطخاب. وأخلى رأسه من الفكر: إذا أردت هلم.. لن أصرخ، فلأكن شجاعا ولو مرة واحدة. ليرحمنا الله)).
هكذا أنهى نجيب محفوظ روايته، نهاية مفتوحة بأن ترك حسين معلقا فوق السور متأهبا للانتحار وإن لم يقدم عليه. وإن كان يفهم من سياق تفكيره وموقفه أن انتحاره هو النتيجة الطبيعية لما حصل. ووراء اختيار صلاح أبو سيف لهذه النهاية سر، ففي ذلك الوقت مرت بحياته سحابة يأس قاتمة عندما ماتت شقيقته الوحيدة. وقال: “شعرت أن فيه ناس يولدون، ويعيشون ثم يموتون من غير أن يأخذوا حقهم في الحياة، ويمكن أن هذا هو الذي تركني أنهي الفيلم بموت البطل”. لعل هذا إذن هو أكبر فارق بين العملين على مستوى الحكي. أما على مستوى المضمون فالفيلم كان في منتهى الأمانة في الحفاظ على روح النص الأصلي وبلورة معانيه مع الاختزال في السرد والتفصيل التي تفرضها طبيعة العمل السينمائي بطبيعة الحال.
وصلاح أبو سيف معروف بأنه يدخل بك منذ الدقائق الأولى إلى لب الموضوع.. فلا يرهقك ببعض الشوائب أو الزوائد.. فرواية نجيب محفوظ تبتدئ وبمعلم المدرسة، ثم بالحارس، ثمّ بالناظر يخبر الطالبين الشقيقين حسين وحسن بوفاة والديهما.. فيسيران في الشارع الطويل قبل أن يصلا إلى البيت وهما يفكران. كل واحد حسب مزاجه. فيما سيؤول إليه حال العائلة بعد هذه الوفاة المفاجئة، لأنه لا معين لهما على إتمام دراستهما سوى أخ منحرف وأم وأخت لا حول لهما وبغير شغل. ثمّ يصلان إلى البيت فيصف محفوظ الجنازة و جوها وتأثيرها على سائر أفراد الأسرة والمعزين. والنائحات إلى غير ذلك. ثم بعد مدة تضطر الأسرة بأمر من الأم إلى إخلاء الدور العلوي الذي كانت تسكن فيه لتؤجره للغير حتى يساعدها ذلك على تحمل أعباء الحياة وتسكن هي وأسرتها في بيت آخر سفلي أدنى وأحقر من الأول. كل هذا كتبه ووصفه نجيب محفوظ في أكثر من 10 صفحات، أي حوالي 260 سطراً، لو حاول المخرج تصويره حرفيا لما كفته مدة الفيلم التي أنجز فيها الفيلم بكامله.
لكنه بذكائه وإبداعه السينمائي دخل صلب القضية في الدقيقة الأولى حيث يبتدئ الفيلم مباشرة بحسنين يعود في خفة وعفوية ليدخل البيت ويصعد السلم جاريا في اتجاه شقتهم، وبمجرد ما يهم بقرع الباب، حتى يتراجع ويبدو عليه التذكر والأسف، لأنه لم يعد ساكنا هناك، فينزل إلى الدور السفلي ويدخله متحسرا على الأيام. وهنا ندخل معه الشقة لنكتشف الوضع العائلي من كافة جوانبه وذلك من خلال أدوات سينمائية بحثة ودالة في نفس الوقت:
– اللباس: الأم والبنت ترتديان السواد حدادا على فقد رب الأسرة
– الديكور: شقة مهترئة الجدران، تطبع الرطوبة جوانبها
– حجرة واحدة للجلوس، وحجرة نوم بها سريرين لحسن وحسين
– الأكسسوار: أثاث مهترئ هو الاخر – ماكينة خياطة عتيقة فوق مائدة صغيرة، ساعة حائطية (سيبدو أثرها واضحا من جراء الرطوبة بعد بيعها ضمن أثاث المنزل الذي سيباع فيما بعد من أجل سد رمق العائلة) بعض اللوحات المتواضعة كتبت عليها آيات قرآنية تدل على الجو الديني المحافظ الذي تعيش داخله هذه الأسرة.
– الحوار: حوار بسيط نفهم منه وفاة الأب القريبة وترك العائلة في ضائقة، كما نفهم ونتعرف في نفس الوقت على شخصياتها:
– الأم مؤمنة بالله وبأنه لن يتخلى عنهم – الأخت منكسرة تعاني عقدة عنسها لعدم جمالها ومع ذلك فهي تبدو مثالا للطيبة وروح التضحية – حسن طالب مجد وجاد – حسنين شاب مغرور ومتطلع بشكل يفوق مستواه الاجتماعي يحافظ على أناقته غصباً عن رثاثة ثيابه و تطبعها ببقع الزيت..) كل هذا إذن يطلعنا على الحالة العائلية والفكرية لهذه الأسرة المنكوبة. ثم تخرج نفيسة لتشتري الغاز فتتبعها الكاميرا لنكتشف الحارة والوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه هذه الأسرة. حارة متواضعة مكتظة بالسكان والمنادين والشحاذين والمقاهي الشعبية. فتتجه نفيسة صوب دكان أحد التجار ليغازلها ابنه المدلل، الخائف دوما من والده (صلاح منصور) فنكتشف أيضاً العلاقة القائمة بينها وبين هذا الشاب الوصولي الذي لا يحترم حتى لباسها وحزنها على والدها الحديث الوفاة. أما حسن (فريد شوقي) فهو شاب منحرف يتاجر في القمار والمخدرات.
تستمر الأحداث متفاعلة وتبدأ نفيسة في السقوط بعد أن ينجح سلمان في استدراجها إلى البيت.. ثم إلى الفراش، ويعتبر مشهد الاستدراج هذا من أغنى المشاهد تعبيرا في الفيلم، خصوصا المشهد الداخلي الذي صوره أبو سيف في كادر مائل إلى اليسار دلالة على انحراف نفيسة وانحراف الطريق الذي زلقت فيه. وينتهي هذا المشهد – بعد عراك وتمنع طويلين من طرفها – إلى استسلامها في حضن سلمان، بصوت خارجي لجزار في الحارة يصرخ قائلا:
((جزار..جزار نظيف))!!
جملة قصيرة لا تدوم أكثر من بضع ثوان لكنها مشحونة بفكرة جوهرية بالفيلم ويتدرج حسنين (عمر الشريف) هو الآخر في طريق طموحه وكبريائه يقبل أن يعطي (بمقابل) دروسا في الإنجليزية إلى ابن جارهم فريد بك إلى جانب أخيه حسنين الذي تكلف بدروسه العربية. ونراه بمجرد دخوله الصالون يمرر يده على الارائك الفخمة بحركة تبدو عفوية ولكنها مقصودة تبرز مدى اشتياقه لبلوغ هذا المستوى (ستكرر هذه الحركة مرتين في صالون الباشا الذي يقصده من أجل البحث عن وظيف) وعندما يعود من الكلية وقد تخرّج ضابطاً عسكرياً تأخذه الكاميرا في جل مشاهده بطريقة الغطس المضاد، أي التصوير من أسفل إلى أعلى، فكان يبدو عاليا متغطرسا يمشي مشية الطاووس المغرور. كما استعمل صلاح موسيقى المارش العسكرية عند ظهوره لتضخيم الإحساس بالمكانة الجديدة التي وصلها حسين.
كذلك من أبلغ المشاهد، ذلك الذي يُستدعي فيه هذا الأخير إلى مركز البوليس ليخبره شرطي بضبط أخته مع شخص في بيت الدعارة. ويبدأ محاورته ونصحه بالتروي وضبط الأعصاب. في حين تدور الأرض بحسنين ولم يعد يسمع أو يفهم شيئا مما يقال له. وجدير بالذكر أن هذا المشهد صوره أبو سيف حرفيا بالطريقة التي كتبه نجيب محفوظ في الصفحة 389 قائلا:
((أنصت حسين للضابط وهو لا يزال يحملق في وجهه. تمتلئ عيناه بوجهه تارة فلا يرى سواه، ويغيب عنهما أخرى فيسمع الصوت ولا يرى شيئا. وثالثة لا يرى إلا شفتين تنطبقان وتنفرجان فينشال من بينهما كلام هو الفزع واليأس والغرابة. وبين هذا وذاك، ترمش عيناه في حركة عصبية فتلتقطان منظرا غريبا هنا وهناك بندقية مثبتة في جدار الحائط، أو صفا من البنادق، أو محبرة، وربما امتلأ أنفه برائحة دخان محبوس)).
فما كتبه نجيب محفوظ في الرواية من وجهة نظر الضابط حسين، صوره أبو سيف في الفيلم من نفس الوجهة وكأننا أصبحنا نحن الجمهور نرى ونحس ما يراه ويحسّه هذا الضابط المغبون. فصور جميع المناظر المذكورة بأحجام جد مكبرة تملأ الشاشة عن آخرها: وجه الشرطي، شفتيه، ثم عودة لعيني حسنين وهما ترمشان، منظر غريب لشيء غير مفهوم، بندقية، بنادق، محبرة… وفيما يخص عبارة ” وربما امتلأ انفسه برائحة دخان محبوس” صور أبو سيف رماد سيجارة مشتعلة، طويل يكاد يسقط منها، فيبدو كبيراً ثقيلا ينبعث منه دخان كثيف يدخل مباشرة إلى أنفس حسين. تصوير في غاية البراعة يجعلك فعلا تشم رائحة هذا الدخان أكثر مما تراه.
بل ان صلاح يضيف من عنده شيئا آخر ليظهر تورط الضابط الكبير في هذا الموقف المحرج يحس بالشماتة ضده. فتتحطم عنهجية هذا الشاب الانتهازي، فكل ما بناه في سنوات هدّمته أخته التعيسة الحظ في لحظة واحدة. آماله وتعاليه على أخويه وأسرته ككل يتكسر في غمضة عين، فللتشفي أضاف أبو سيف جملة غنائية على لسان زميلات نفيسة المعتقلات معها في حجرة الحجز تردد هذه الجملة عادة في أفراح الزواج للإشادة بأخلاق العروسة “حلوة يا بلحة مقمعة شرفتي إخوانك الأربعة “!! فيسمعها حسنن بوضوح تام ويفهم. فهل هناك شماتة أشد وأنكى من هذه؟.. فهذه الجملة غير مذكورة بالرواية، ولكن المخرج استغل إضافتها فلم تأت مجانيا.
3 – سناء جميل تفقد سمعها حقيقة وتفوز بجائزة
استغل أبو سيف ممثليه استغلالا بارعا، حيث نجد أن نجمة المسرح سناء جميل تقوم لأول مرة بدور البطولة في السينما، فحقق ظهورها فيه نجاحا لفت اليها الأنظار فأسند إليها المخرج يوسف شاهين بطولة فيلميه: “فجر يوم جديد “و”غداً تبدأ الحياة” كما عاد صلاح أبو سيف إلى العمل معها في فيلم “الزوجة الثانية” ويقول عنها صلاح:
((لم يكن عند سناء جميل عيوب ممثلات السينما، فلم تفرض شروطا معينة بيننا نتعرض لمتاعب لا حصر لها من العمل مع الكواكب المعروفات…)) * (2)
ونالت سناء عن ادائها لهذا الدور الجائزة الثالثة لأحسن ممثلة في مهرجان موسكو سنة 1962 (الأولى كانت لممثلة روسية والثانية لصينية). وظهر إلى جانبها صلاح منصور، ابن البقال الذليل الذي جسد هو الآخر دورا غاية في الخبث والتحايل وضعف الشخصية في نفس الوقت رغم شكل جسده المنتفخ وجحوظ عينيه اللذين لعب عليهما مخرجون آخرون لأدوار مناسبة منهم أبو سيف نفسه كشخصيّة العمدة المتسلط مثلا وما اليها. وبخصوص صلاح منصور، صرح أبو سيف أنه درّبه مدة طويلة على البيع في محل للبقالة حقيقي حتى استطاع مثلا أن ينزل سلة البيض بيد واحدة، واليد الأخرى مشغولة بالكيل، وهو لا يكف عن محادثة الزبائن أو مغازلة نفيسة.
كما تقمص عمر الشريف دوره بصورة جد واقعية إلى درجة – حسب تصريح صلاح أبو سيف – أنه صفع نفيسة/سناء جميل صفعة حقيقية اردتها ارضاً وهما فوق الجسر في آخر مشهد، أدت إلى فقد سمعها من أذنها اليمنى التي تلقت الصفعة، ولا تزال كذلك إلى الآن!!
هذا إلى جانب فريد شوقي في دور (حسنين) المنحرف والذي ساعدته تقاسيم وجهه وعضلاته على تقمص دور فئة معينة من الشباب. وكذلك أمينة رزق/الأم الغلبانة المؤمنة والتي تمرست بدورها على القيام بمثل هذه الأدوار.
كل هذا إذن خلق من (بداية ونهاية) فيلما واقعيا جيدا، أعطى للرواية الأدبية نفسا جديدا فأبرز منها ما غاب بين ثنايا السطور والكلمات مما أغفله المؤلف أو سكت عنه.
* مراجع:
* (1) – حوار مع نجيب محفوظ – مجلة الوطن العربي- من 22 إلى 28 اكتوبر1982 – العدد :297 – السنة 6 ص 64
* (2) – (صلاح أبو سيف فنان الشعب) تأليف: سعد الدين توفيق – ص 279