نورس البريجة : خالد الخضري
افتُتِحت الدورة 12 لمهرجان “الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة” والتي حملت شعار: “السينما والمقاومة” بفيلم (فداء) لإدريس شويكة، سيناريو عزيز الساطوري. تشخيص: فضيلة بنموسى، خديجة عدلي، ربيعة رفيع، رقية بنحدو، محمد اخيي، ادريس كريمي، محمد بوصبع، البشير وكين، عبد الإله رشيد، صالح بنصالح، أحمد عمراني، أكسل أوستن، حكيم رشيد ومعاد لصمك. ورد بالملخص:
“نحن في سنة 1953. وعلى العكس مما كانت تنتظره الإقامة الفرنسية، سيؤجج نفي الملك محمد الخامس غضب وسخط الشعب وسيدفع بعبد الرحمن إلى الالتحاق بصفوف المنظمة السرية للمقاومة المسلحة التي يديرها محمد الزرقطوني بيد من حديد.
لكنه سيجد نفسه في منتصف الطريق أمام خيار صعب عندما سيكتشف أن صهره ووالد زوجته يتزعم شبكة للمخبرين وكان وراء إرسال عدد من الفدائيين إلى السجن أو الموت”.
أولا: رباعية الألوان
((إلى ذكرى الملك محمد الخامس، محمد الزرقطوني وإلى جميع الشهداء والمقاومين الذين استشهدوا من أجل حرية واستقلال المغرب)).
بهذه العبارة يُستهل فيلم (فداء) ليولجنا مباشرة في صلبه، ألا وهو نضال المغاربة ضد الاستعمار الفرنسي من أجل رجوع الملك محمد الخامس من المنفى واستقلال المغرب. ثم تتوالى المشاهد واللقطات لبلورة هذا الطرح عبر عدة آليات على رأسها الصورة، التي ارتأى المخرج أن ترتفق اللونين الأبيض والأسود لمنح العمل سمة وثائقية وأيضا حميمية، لأن جميع الأفلام التي صورت عودة السلطان من المنفى تمت بالأبيض والأسود. وفيلم (فداء) عينه يبدأ بمشهد حشد من المواطنين/ الممثلين مصطفين على جنبات الطريق ينتظرون وصول طائرة الملك، ثم مروره بالسيارة المكشوفة ملوحين بصوره وبالأعلام الوطنية. إلا أن إدريس شويكة أضاف لونين آخرين: الأحمر والأخضر (لونا الراية المغربية) في 3 مشاهد لكل مشهد دلالته :
– المشهد الأول: العَلَم الصغير المنزل بغرفة عبد الرحمن، حيث كان هو الأكسسوار الوحيد الملون داخله.
– المشهد الثاني: استشهاد المناضل مصطفى (صالح بن صالح) حين تفجر الدم قانيا من صدره.
– المشهد الثالث: مشهد النهاية حين كان عبد الرحمن يحمل ابنته “فداء” فوق كتفيه وهي ترتدي قميصا أحمر حاملة الراية الحمراء، ليكتب فوقها وبنفس اللون عنوان الفيلم باللغة العربية “فداء” وبالفرنسية تحته Résistance باللون الأخضر.
وطبعا لهذه الاستعمالات الثلاثة للألوان في فيلم مصور بكامله بالأبيض والأسود دلالاتها المحورية، حيث آلت كلها على فحوى أو” ميتافور” الفيلم الذي ذكرت في البدايـة: ” النضال من أجل عودة الملك والاستقلال”. فمشهد الراية الأول يحيل على “الوطنية” – والثاني “الشهادة” – والثالث للطفلة فداء وهي تحلق مثل حمامة فرحا على “لحرية والاستقلال”.
ثانيا: الجمع بين جيلين
توفق ادريس شويكة في انتقاء الديكورات لاسيما الخارجية الطبيعية والتي تشكل تحديا حقيقيا للمخرجين المغاربة في الأفلام التاريخية، إذ قلما نعثر على حي مغربي يحيل على خمسينيات القرن الماضي دون أن تخدش تاريخيته أكسسوارات الزمن الراهن من سيارات، هوائيات التلفزيون وصحونه، أعمدة الكهرباء الخ… لكن ادريس تحايل على كل هذا باختياره التصوير في بعض أحياء مدينة آسفي العتيقة التي تزخر بالدروب الملتوية ذات الأقواس والأبواب الخشبية والرْياضات الداخلية، ساهم في تزكية الطابع التاريخي عدد من الأكسسوارات مثل السيارات:
(2 et 4 Chauveaux ) وألبسة الممثلين. (الجلابة والحايك واللثام) بالنسبة للنساء . ثم الجبة والطربوش والبلغة بالنسبة للرجال. ، فرّان الحومة و”حمّام الفن” للرجال والنساء. والذي فيه كان يختبئ الفدائيون. في هذا السياق كتب الزميل والصديق مبارك حسني في الصفحة السينمائية لجريدة “الحياة اللندنية” بتاريخ 12 غشت 2016:
“في هذا الشريط يمنحنا إدريس شويكة صورة أمينة ومجسدة حد التفاصيل لفصل من التاريخ. وهو في ذلك يطبق إحدى مقومات الفن السابع، والتي تتجلى في إعادة رســم الزمن وترسيخه “عيانيا ومباشرا”. هو أمر قلّ ما شاهدناه بهذه الدقة المنتبهة للتفاصيل. الملابس والأثاث وتسريحة الشعر الرجالية و اﻷحياء العتيقة ومكونات الخارج المتطابقة، السيارات وواجهات المحلات والمباني”.
كما أصاب ادريس بترشيح كاستينغ جمع بين جيلين من الممثلين، كبار معروفون: محمد اخيي، البشير وكين، فضيلة بنموسى، خديجة عدلي، محمد بوصبع، إدريس كريمي – ثم صغار متمرسون: صالح بنصالح، عبد الإله رشيد، ربيعة رفيع، أحمد عمراني إضافة لبعض الممثلين الفرنسيين على رأسهم أكسل أوستن الذي أصبح في مصاف النجوم، الشيء الذي منح للفيلم شحنة درامية قوامها تشخيص أقل ما يقال عنه، إنه مقنع.
ثالثا: السهل الممتنع
وطبعا لم يكتسب فيلم (فداء) مشروعيته التاريخية والفنية فقط من آليات التصوير و التمثيل واللباس والأكسسوارات، بل أيضا من تماسك سيناريوه الذي صاغه الزميل والصديق عزيز الساطوري منتهجا ما يسمى بالسهل الممتنع، بحمله لحكاية قد تبدو بسيطة مكتوبة بطريقة أفقية، لكن هنا تكمن قوتها، إذ ليس أصعب من صياغة متن حكائي روائي يمنحك الإحساس بالوثائقي، من خلال أسلوب يعتمد تسلسل الأحداث بشكل منطقي بعيدا عن المبالغة والصدف، ومشبع بالوثائق، بدءا من العبارة الواردة في مستهل الفيلم إلى جينريك النهاية، بما في ذلك الحوار الذي لعب دورا رياديا في تزكية هذا الطرح الحكائي/الوثائقي. فهذا المخبر أو” الشكام” (إدريس كريمي) صهر عبد الرحمن، حين يطلب منه هذا الأخير عدم إفشاء السر يرد:
- كون هاني، حتى راسي مايسيقش الاخبار!!
مرورا ببقية الحوارات المفعمة وطنية، مسؤولية ووثائقية:
“سمعوا الإخوان، ماشي وقت اللعب هذا، السلطان هزّوه النصارى. وجمعوا القياد والباشوات خلّاوهم يوقعوا على ملتمس يحيدوه بدعوى يحميوه. دابا ما علينا إلا المرور من العمل السياسي إلى المسلح”.
قيل هذا الحوار الملغوم في اجتماع خلية المقاومين التي انضم إليها عبد الرحمن وكانوا يضعون أقنعة على وجوههم، إلى أن أدى قَسَم النضال ويده على المصحف الشريف:
((أقسم بالله العظيم أن أضع حياتي ومالي رهن إشارة المقاومة. وأن أبذل الغالي والنفيس لنصرة المقاومة حتى طرد الاستعمار. وأن أظل وفيا لإخواني حتى يحقق لنا الله النصر المبين. وأؤكد انني أستحق كل عقاب إذا ما خنت هذا العهد)) الشيء الذي يشعرك بمصداقية العمل الفني من جهة / الفيلم، ثم النضالي/ المقاومة من جهة ثانية.
خلال عرض الفيلم في افتتاح المهرجان، اهتزت القاعة تصفيقا لهذه اللقطة لعزفها على وتر الوطنية لدى الجمهور. ما زكى هذا الطرح، اللقطة الموالية للقَسَم حين اشتبكت أيادي المقاومين معلنة الاتحاد والتضامن، فصورتها كاميرا فاضل شويكة بالغطس المضاد من تحت لفوق، فبدت هذه الأيادي كبيرة، عالية، ومتماسكة وشعاع الشمس ينفد من بين أصابعها يومض أملا بالحرية والاستقلال.
رابعا: بنت خائن وزوجة مناضل
وللسيناريو أيضا آلياته أهمها ليس فقط الايجاز ولكن الاختزال مع عمق المعنى، لأن السينما في حد ذاتها اختزال للواقع، فما قد تقوله لقطة وجيزة في بضع ثوان قد يعبر أفضل من “خطبة عصماء” على حد تعبير العرب القدامى، وأشد بلاغة من صفحة كاملة بمفهوم الأدب الروائي. فأحيانا قد تتطلب كتابة حوار وقتا أطول من كتابة سيناريو ذاته. وبما أن “ميتافور” الفيلم هو النضال، فقد كان طبيعيا أن يزكيه الحوار مثاله ما أوردناه بخصوص قَسَم عبد الرحمان على المصحف. وها هو نفس البطل يقول ردا على زوجته:
- “لو خيروني بين امرأتي وبلادي، أختار بلادي لأنها هي الأصل” ثم يضيف:
- “لست أنا من قتل والدك، ليس لأنني لم أقدر بل لأنني لم أرد ذلك”.
وهذا صهره “البيّاع” يتجشأ حقيقته حين يقول لزوج ابنته:
- “الوطن يعاود لمخّو. ما كاين لا وطن ولا مولاي ابّيه. ما كاين ع المصلحة”
وطبعا كانت التصفية الجسدية مآله حيث تجد ابنته نفسها في مأزق لا تحسد عليه: فهي بنت خائن وفي نفس زوجة مناضل؟ !!
وها هو واحد من المناضلين حتى بعد إطلاق سراحه يقول بمرارة :
- “ما دامت بلادنا مستعمرة فنحن فسجناء وكلنا في السجن”
زائد بطبيعة الحال العبارات المكتوبة على لافتات المواطنين في التظاهرات الاحتجاجية مثل: “السلطان إلى عرشه والاستعمار إلى قبره” أو “بالروح بالدم أفديك يا بلادي”.
خامسا: تمازج إيجابي
الفيلم على المستوى السردي متماسك والساطوري كسيناريست وصحفي مدقِّق لم يذخر جهدا في ضبط التواريخ والأحدلات وأسماء المنظمات: (حزب الاستقلال، منضمة اليد السوداء) وكذلك الأكسسوارات )جريدة Le Courrier de Maroc) وشخصيات من أهمها الشهيد محمد الزرقطوني الذي استشهد سنة 1954 في عز شبابه (27 سنة).
يبقى فقط أن مشهد زف خبر عودة السلطان من المنفى واستقلال المغرب لم يكن بالقوة والتأثير المتطلبين عن واقعة بمثل هذا الزخم العاطفي والحمولة الوطنية والإنسانية، إذ حلّ أيضا عن طريق الحوار و في المستشفى !! لن اقترح عليه بديلا، ولكن تمنيت لو تم هذا الإعلان وما تلاه من فرحة عارمة بين جموع المواطنين / أبطال الفيلم، بطريقة أشد حرارة ووطنية، دون أن ينتقص هذا من نجاعة العمل كتابة / إخراجا وأداء في التعريف بمرحلة من أشد مراحل المغرب إحراجا في تاريخه المعاصر، ألا وهي مرحلة ما قبل الاستقلال حتى حلوله.
وقد كان المخرج إدريس شويكة ذكيا ومحظوظا بإبقاء السيناريست عزيز الساطوري إلى جانبه خلال تصوير الفيلم، الشيء الذي ساهم في منح هذا الأخير قوّته الدرامية وجنّبه من أي انزلاق تاريخي حبذا لو حذا حذوه بقية مخرجينا. وبالتالي وفّر هذا التمازج لكل من شاهد فيلم (فداء) فرصة الاطلاع على عمل سينمائي تمتزج فيه الوثيقة بالخيال لحد الذوبان. كما أن العمل برمته يعزز الفيلمغرافيا المغربية الروائية الطويلة، من حيث سينما أو أفلام النضال الوطني والتي تبقى جد قليلة بالكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة ضمن مجموع يتجاوز 300 فيلما.