كتب

“حكايات الحي العتيق” سيرة ذاتية بالنيابة

كاتب يتفيأ ظل سيناريست

 نورس البريجة: خالد الخضري

ما أجمل أن تجد أحدا يكتب نيابة عنك أو بعبارة أدق: أن يكتب بقلمك، فيتحدث عن طفولتك، شبابك، شقاوتك، مغامراتك وحبك الأول في الحي أو الدوار أو المدينة أو القبيلة. هذا هو الشعور الذي خالجني وأنا أقرأ رواية الزميل والصديق عزيز الساطوري “حكايات الحي العتيق” الصادرة في 217 صفحة من الحجم الكبير.
1 – من إسكافي الحومة إلى قمّار الحومة
تتفاعل أحداث هذا الحي بمدينة الدار البيضاء، وتحديدا في درب غلف، حيث قضى الكاتب ردحا طويلا من طفولته وشبابه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بما شهدته تلك المرحلة من تفاعلات سياسية، اقتصادية واجتماعية وشمت المشهد المغربي بكثير من العلامات البارزة. لكن عزيز لم يسقط في شرك التوثيق التاريخي، بل ترك التاريخ عينه ينفذ إلينا من عدسة أو عيني طفل صغير– شاهد عصره– يرى، يسمع ثم ينقل إلينا الوقائع والأشخاص، كما الفضاءات والديكورات، وكأنه يتلصص من ثقب باب.
في خضم هذه الأحداث، حتى وإن لم تكن سيرة ذاتية صرفة لعزيز الساطوري، فهي ظل من حياته، بل ومن حياتنا جميعا نحن جيل ما بعد الاستقلال، وكيف عايشنا عددا من التطورات الاجتماعية، العمرانية والتكنولوجية، فكان الواحد من سكان الحومة متى أفاض الله عليه برزق وأدخل صنبور ماء عذب لبيته، يسقي به الجيران ممن لم ينعموا بعد بهذا الاختراع العجيب، مثلما كانت تفعل حادة، زوجة علال الماعوني، في “الحي العتيق”. أو إذا (ركّب) أحدهم جهاز هاتف ثابت، يعلّق الرايات ويقيم وليمة لسكان الحين فتعلو الزغاريد وتعم الفرحة الحي برمته، ولو أن كثيرا من سكانه لم ينعموا بجرعة ماء من (البزبوز) ولا شاهدوا أو سمعوا “التلفون”.
ففي كل حدث أو شعور أو موقف، أو لعبة أطفال في رمضان مثلا، كنت شخصيا أرى نفسي وطفولتي بشغبها، شقاوتها وأيضا ببراءتها الملغومة ونحن نلعب مثلا لعبة “دينيفري” في رمضان لنجري ونختبئ داخل أو في جنبات حطب الحمام أو الفرن “فرّان الحومة”، الأيقونة البارزة في أي زقاق أو حارة مغربية عتيقة مثل الحمّام، والقهوة، ودكان الحلاقة، والمحْلبة. هذا الفرن الذي غالبا ما يكون مقر اجتماع سكان الحي، ومحل مداولاتهم، وعقد صفقاتهم التجارية كما الاجتماعية من زواج وطلاق وجنازات إلخ…بما يذكرنا بمقاهي وأفران حارات نجيب محفوظ.
فهذا الفيض التاريخي والحميمي في نفس الوقت الذي تعبق به “حكايات الحي العتيق”، نفذ إلينا عبر مجموعة عائلات وأشخاص أغلبهم من الطبقة المتوسطة،عدد منها يقيم على حافة الفقر دون أن يسقط فيه. يتقاسمون شظف الحكي والعيش، حيث تنشأ علاقات حب مجهضة في مهدها كما هو الشأن بين الروبيو وحياة، وبين القونصو وزبيدة بنت الصباغ، هذا الأخير الذي قتل القونصو بإعلان رفضه تزويج ابنته، مشروع طبيبة من مجرد إسكافي، فانغمس الخاطب في شرك القمار، ليتحول من إسكافي الحومة إلى قمّارها، وأصبح عالة عليها وعلى نفسه ووالدته.

2 – سيناريست يحكي
ارتفق عزيز الساطوري كتابة لا أجدها صحفية سهلة ولا أكاديمية معقدة، بل عربية سليمة يسندها عنصران متكاملان، أحدها موضوعي: التشويق. وثانيهما شكلي: الصورة.
فبالنسبة للعنصر الأول: اختار عزيز أن يخضب “حكايات الحي العتيق” بقصة بوليسية تتمحور حول مقتل شابة داخل بيت تكتريه فوق سطح من أسطح الحي. حيث أصبح الجميع بمن فيهم القارئ، مهووسا بمعرفة الجاني، مما يرغمه على إتمام الرواية دون أن يشعر.
العنصر الثاني: ولعب أيضا دورا في شد القارئ، هو أسلوب الكتابة الذي اعتمد على الصورة، ولا غرو في ذلك، فالساطوري قبل وبعد كل شيء سيناريست، لذا وجدته يكتب بالكاميرا أو يصور بالقلم، حيث يجعلك تشاهد الحدث وتسمع من وما فيه من: شخوص، ديكور، إكسسوارات ومؤثرات بما فيها من حوار أو موسيقى أو شجار أو صمت. يكفي دليلا ماورد في الثلاثة أسطر التالية من. ص 208:”سمعت مونية آهة غطى عليها صوت المذياع. انهارت سميرة فوق المائدة وتدلت يداها. رأت بقعة دم كبيرة، ظلت تمسك بالسكين، نظرت تلقائيا إلى الوراء، إلى السطح، فلم تر سوى الظلام”.
فهذا مشهد أو بالأحرى لقطة لا تدوم سوى بضع ثوان قد لا تصل الدقيقة الواحدة، مصاغ بطريقة سينمائية صرفة، لو أعدنا تدوينه في مخطوطة السيناريو لأصبح كالتالي:
الزمان/ليلا، بحكم أنه كتب “لم تر سوى الظلام”
الديكور:داخلي/غرفة
– الإكسسوارات: مائدة – مذياع – سكين
المؤثرات السمعية:حوار موجز “آهة”- صوت مذياع خافت
الشخوص:مونية – سميرة التي تنهار على المائدة (لقطة أو منظر مكبر ليديها) – ثم بقعة دم.

3 – كاتب يتفيأ ظل سيناريست
كما أن الكاتب لا يستمر متفيئا ظل السيناريست ليكتب روايته كلها بأسلوب سينمائي، بل هو في عدد من الفقرات ينجرف مع هذا الأسلوب الأخير المعتمد أساسا على الصورة، وهذا ليس بعيب بل إثراء للمتن الروائي، ولكنه يعود في أغلب فصول الكتاب للروائي والراوي، ساردا للأحداث محللا للمواقف بالحرف والكلمة، مثاله ما ورد في الصفحة 132 حيث كتب:
“كانت تلك رصاصة الرحمة التي أطلقت على يامنة، قضت على كل أمل تبقى لها في الحياة، فوجدت في البكاء السلوى الوحيدة. طامو، التي رافقتها خلال محنتها، قالت بأن يامنة أصبحت عبارة عن خيال امرأة، فقدت شهية الأكل، وفي غضون أسابيع قليلة نحفت بشكل لافت، إلى درجة أن عظام وجهها أصبحت بارزة، كما ذبلت عيناها، وبدأت التجاعيد ترتسم على وجهها وعنقها”.
تبقى إشارة مهمة تدخل في سياق الصورة أيضا هي : الغلاف الذي صممه بذكاء الفنان التشكيلي شفيق الزگاري، باعتماده صورة باب عتيق ذي لون رمادي، يتصدره مزلاج وقفل حديديان يغطيهما صدأ السنين، لكي تشطفه وتفتح القفل ثم الباب لتدخل، عليك أن تقرأ “حكايات الحي العتيق”.

 

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button