سينماموسيقى

هذا هو  (الحال) .. العالم من قديم خَصّاه نَغْزة

الحال مناجاة داخلية مع الروح

نورس البريجة: خالد الخضري

افتتحت الدورة 25 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة  كما هو معلوم  بتكريم المخرج أحمد المعنوني مع عرض فيلمه الذي يعتبر وثيقة وتحفة في ريبرتوار السينما المغربية (الحال) المنجز سنة 1981. حضرت إلى جانب المعنوني المخرجة يزة جينيني التي اضطلعت بمهمة إنتاج الفيلم إلى جانب زميلها سهيل بن بركة. فيما يلي قراءة خاصة به من وجهة نظر قابلة للنقاش.

1 – الفيلم الوثيقة
تم ترميم (الحال) من قِبَل مشروع السينما العالمية التابع لمؤسسة الفيلم، وقدّمه المخرج العالمي مارتن سكورسيزي صاحب فيلم (سائق التاكسي) الشهير الذي حصل به على السعفة الذهبية  لمهرجان كان سنة 1976 وأدى فيه النجم روبير دي نيور واحدا من أدمل أدواره كما ساهم في شهرته. قدم سكورسيزي فيلم (الحال) بمهرجان “كان” السينمائي الدولي سنة 2007  ضمن مجموعة (كان الكلاسيكية) حيث ورد ضمن تقديمه هذا وهومسجل في مستهل الفيلم: “منذ سنوات أصبح هذا الفيلم يشكل هاجسا بالنسبة لي، لذا قررت أن أفتتح هذه المؤسسة بفيلم (الحال)”

يوثق (الحال) ليس فقط لمجوعة ناس الغيوان التي ولدت في سبعينيات القرن الماضي ولكن لفترة زمنية ساخنة عاشها المغرب والعالم العربي تفاعلت فيها عدة أحداث، وثقها الفيلم كما وثق أحداثا أخرى تعود للمرحلة الاستعمارية وغيرها. وأهم عنصر لعب عليه المعنوني أو بالأحرى وظفه هو العنصر السمعي وتحديدا  الصوتي SONORE.

أسندت هذا العنصر أربعة عناصر أخرى هي: الموسيقى بالدرجة الأولى (موسيقى ناس الغيوان) ثانيا:  المؤثرات الصوتية: هتاف جماهير الغيوان وصياحها، زعيق الشارع بما فيه من محركات ومنبهات السيارات والدراجات النارية وهتاف الباعة والمارة والنوادل، هدير بحر الصويرة وصياح نوارسها.ثالثا: الصمت المطبق لكنه صمت هادر بعمق مغزاه وغور محتواه، أبرز مثال له مشهد جنازة الملك الراحل محمد الخامس باللونين الأبيض والأسود والذي مهما أجدت في وصفه، فإني فقط سأجني عليه، فأبْلَغُ من تصفه هي مشاهدته ضمن سيرورة وتراتيبية لقطات الفيلم ومشاهده.

2 – مزج متصل و”تحيار” متواصل

وظف أحمد المعنوني وبكثافة تقنية المزج المتصل Le fondu enchainé في لحم تلك الأصوات وربطها ببعض دون قطع كما حدث في مشاهد “جذبة گناوة” تحت قيادة المرحوم المْعَلّم عبد الرحمن باكو – عضو مجموعة ناس الغيوان – في “دار الصويري” بمدينة الصويرة، والتي أصبحت حاليا متحفا أو مزارا يهفو أي سائح خصوصا متى كان من عشاق الغيوان، إلى زيارته والتقاط صور بداخله، حيث مزج المعنوني نغمات “السنتير” / “الهجهوج” مقرونة بإيقاعت الطبول و نقرات “القراقب” بهدير الأمواج وهي تصطك بصخب عنيف على الصخور، وكأن هذه الأمواج تدخل هي الأخرى في  “جذبة” مع البحر لتتكسر ناطحة مقدمتها مع صخره، تماما كما كانت تفعل تلك المرأة الكبيرة وهي تلف رأسها بشال حتى لا يظهر وجهها طالقة العنان لجسدها “يتحيّر” على نغمات سنتير عبد الرحمن و القراقب في “جذبة” هيستيرية تنتهي بنطح رأسها على الأرض قبل الدخول في شبه إغماء و”خُدّام المْكان” يصلّون على النبي وهم يرشون ماء الزهر على وجهها وعلى المريدين من حولها، ويطوفون بمباخر نحاسية يضوع منها البخور مؤثثا الفضاء بغلالة ضبابية لا تلبث أن نتقشع – بتقنية تذويب الصورة أو المزج المتصل أيضا – على أفراد المجموعة وقد “ركبهم الحال ” يعزفون، يغنون، يجذبـون، يعرقون و”يتحيّرون” فوق الخشبة.

في هذا السياق، فعنوان الفيلم في حدذاته باللغة الفرنسية  يحيل على “الجذبة”  و”التحيار” TRANSES وعملية “الجذبة” هذه كما هو معروف في علم النفس، وسيلة من بين وسائل عدة لتصعيد الرغبات المكبوتة، ما يطلق عليه ب “التسامي” لتحويل الطاقة النفسية الناتجة عن رغبات غير مقبولة إلى تصرفات وسلوكيات إيجابية ومقبولة اجتماعيًا. وعند الصوفيين درجة من درجان التوحد مع الخالق والدخول في مناجاة مباشرة مع الروح  حيث يكاد الجسد ينتفي. وبالتالي فعادة ما نشاهد أناسا في قمة الرزانة والوقار يدخلون في جذبة تبدأ بالتمايل التدريجي رأسا ثم جسدا، إلى أن ينخرطوا في تلك الجذبة غير عابئين بما ولا بمن حولهم كما حدث لتلك السيدة “الوقورة”.

ثم نفس المعلم “باكّو” وهو في محل النجارة يشتغل وكان معه عمر السيد، إذ أقبل عليهما  ساع  يعزف على نايه نغمة ذات إيقاع حمدوشي، تناول على إثره عبد الرحمان البندير وبدأ يعزف معه . فهنا مزج المعنوني نفس الإيقاع بأغنية (تغنجة) حيث يصعد المعجبون أو بالأحرى “المجذوبون” إلى الخشبة أو الفضاء المعد للعزف والغناء حتى بالهواء الطلق في مدينة العيون كما في مهرجان قرطاج بتونس، ليرقصوا ويجذبوا مع بقية أعضاء الفرقة رغم المحاولات اليائسة لرجال الحراسة ولا “المخازنية” في منعهم من ذلك:

(( يا الزايدين المهموم في همه  يا المعاونين الظالم على ظلمه

ربي موري لمريرة يا ناس  غير بلاش زيادة الهضرة

ذا العالم من قديم خاصاه نغزة

العيب فينا بالأ طنان    لا لغـة موحـدة ولا ماية

يا حيرتي ف بنادم واحد وكثـرة الأديان

ياك ذاك الإنسان . . . وذاك إنسان     ياك هذاك لذاك مراية))

ثم تبدأ القطعة ذات الإيقاع المهيِّج الذي يثير مباشرة الجدبة والتحيار: ((واسقينا واروينا … من بحرك خمرنا…))

والواقع أن الأفراد الأربعة للمجموعة وأنت تتأملهم واحدا واحدا – لا سيما المرحومان العربي باطما على آلة “الطبيْلة” أو “الطامطام” وعبد الرحمن باكو على “السنتير” كما البندير –  يبدون هم أنفسهم مجاذيب مغيَّبين أو مخدَّرين تماما مع آلاتهم ينزفون عرقا، قدمهم المعنوني في عدد من اللقطات بتقنية العرض البطيء،  فلا تدري من يمسك ويعزف على الآخر: هل الموسيقي هو من يعزف على الآلة ويغني أم الآلة هي التي تفعل ذلك؟

3 – قذائف أرض قلب

ما يضاعف هيجان الجمهور العنصر الصوتي الرابع  والذي يتجسد في كلمات الأغاني الملتهبة  في ذلك الوقت الذي كانت فيه حرية التعبير شبه مقموعة،  فأطلقت المجموعة قطعا حارقة يكفي أن عنوان الفيلم مستقى من واحدة من أجمل أغانيهم ذات البعد القومي العربي (اهل الحال):

((اهل الحال يا اهل الحال        إمتى يصفا الحال ؟

وتزول الغيوم على العُربان        ويتفاجى الاهوال

ويا السامعني زيد اسمعني      وافهم شاني ويقين

رقصت في العروبة اموات           وكثروا الطغاة

ضايعين ويا العرب ضايعين))

ثم (ما هموني) وهذه عن الذين اغتيلوا أو اختطفوا في سنوات الرصاص حيث تتغني المجموعة بالأمل والعزم على النهوض بغرس أشجار جديدة وبناء جدران حديثة رغم كل شيء:

((ما هموني غير الرجال إلى ضاعـــــــــــو       الحيوط إلى رابو كلها يبنـــــــــــي دار

ما هموني غير الصبيان مرضو وجاعـــو      والغرس إلى سقط نوضو نغرسو أشجار

والحوض إلى جف واسوَد نعناعــــــــــو      الصغير في رجالنا يجنيه فاكية وثمـــــار))

أضف: (سبحــان الله صِيفـْنـَا وْلـىَ شْـتـْـــــــوَة) حيث تتعجب المجموعة من تغيّر الحال إلى نقيضه فالصيف أصبح شتاء، والربيع خريفا،  وبعد أن كنا نناهض الصهاينة  غدونا نقبل بذلهم وأصبح الشرق كفيفا، والشاهد المتوقَّع منه النزاهة وقول الحق يشهد بالزور، والحاكم الذي من المفروض أن يكون صادقا عادلا أضحى طاغيا مرتشيا:

((سبحــان الله صِيفـْنـَا وْلـىَ شْـتـْـــــــوَة        وْارْجْعْ فْصْلْ الرّْبِيعْ فْ البُلْدَانْ خْريف
وْامْضَاتْ إيَّامْنَا وسْرْقـَـتْـنَـا سهــــــــوة       وْتْخْـلْطـَـتْ الأديان شَلَّى لِيكْ نْصِيــــفْ
الصّهْيُونْ فْ غاَيَة لَعْلُو دَرْكُو سَطْـوَة      وْقْبْلْنـَـا دلْهُــمْ عـَــاد الشّرْقْ كْفِيــــفْ
جُورْ الحْكـَـامْ زَادْنَا تَعـَــــبْ وْقسْـــوة     لاَ رَاحَة وُالعْبَادْ فْ نَكَدْ وُ تَعْسِيــــــفْ
وُالحَاكْمْ كَايْصُولْ كَايْقْبْطْ الرّشْـــــــوَة    وُالشّاهْدْ كَايْدِيرْ فْ الشهَادَة تْحْرِيــفْ ))

فهذه لم تكن فقط أغاني للطرب والفرجة والاستمتاع، ولكنها كانت أنّات شعب قصمت ظهره المواجع وتكالبت عليه محن الحكام والمسؤولين وأصحاب القرار، ونتفا من غضب الشارع وصياحه حين يندمج في جذبة الزمن الأغبر قبل أن يفرغها في حضن الغيوان الذين لم يكونوا يقدمون فقط ألحانا ومعزوفات وإيقاعات ساخنة،  بل كانوا يطلقون  قذائف أرض قلب، حيث ينتهي الفيلم بواحدة من أشد أغانيهم حركية، حماسة، وإيقاعها سريعا، يتخلى فيها علال عن البانجو ليمتشق البندير، وكذلك يفعل باكو تاركا السنتير متدليا  بعنقه، بينما يدخل عمر السيّد في حوار ملتهب مع البندير أيضا،  في حين يلتحم العربي باطما مع الطامطام بشكل هيستيري بنقرات  جنونية  تتسارع تدريجيا، ليؤدي الجميع قطعة (الهمامي) المثيرة  ل”الحال” والملهبة للرقص و”التحيار” بشكل  جارف يصعد على إثرها جينيرك النهاية FIN.

*إهداء:

إلى كل عشاق “ناس الغيوان” وخصوصا الفرقة التي لا زالت تحدو حذوها بمدينة الجديدة، تتابع مسارها و تحمل اسما تركيبيا لها  هو: ” حال الغيوان” والتي انضم  ثلاثة منها هم الشقيقان عبد الرحيم ومصطفى شهاب (إيقاع) ومصطفى الزبيحي (البانجو) إلى مجموعة “ناس الغيوان علال” الحالية بقيادة عازف البانجو المايسترو علال يعلى إلى جانب عازف السنتير الفنان ريفق رضوان.

 

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button