نورس البريجة: خالد الخضري

من أفلام المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل بالمهرجان الوطني للفيلم بطنجة،(حب في الداخلة) من إخراج خالد براهيمي، سيناريو عبد الإله الحمدوشي عن فكرة للمنتج شرف الدين زين العابدين (رئيس المهرجان السينمائي الدولي بالداخلة) بطولة: فاطمة الزهراء بلدي، محمد بوشايت، غيثة برادة، فايزة زبيطة وغالي كريمش. ورد بملخص الفيلم: “اختارت ماجدة وحسناء السفر إلى الداخلة هربا من صخب الدار البيضاء. وفي هذه المدينة ذات المناظر الخلابة بين أمواج البحر والصحراء الفاتنة، تمكنتا من التغلب على ضائقتهما النفسية، والتخلص من الطاقات السلبية التي كانتا تحملانها في داخلهما”.
1 – حب الداخلة
انطلاقا من الملخص يتبين المسار العام للفيلم وعصبه الأساسي ألا وهو مدينة الداخلة المغربية المحاذية للمحيط الأطلسي بأقاليمنا الصحراوية، وعما تحبل به من مناظر طبيعية ذات تضاريس متنوعة تجمع بين بين البحر والرمل والماء والسماء والتقاليد والثروة السمكية ، مما يُدرج الفيلم في “سينما المدينة” حيث علّق أحد المتدخلين في مناقشته أنه يجدر تغيير العنوان من: (حب في الداخلة) إلى: (حب الداخلة) وله حيز كبير من المصداقية في طرحه هذا.
وبالتالي فالحب الذي يحبل به الفيلم ليس مقتصرا على حب المدينة ولا على الحب العاطفي الذي تكنه ماجدة لزوجها ولا صديقتها حسناء لمدربها في رياضة القوارب الشراعية، ولكنه يتدرج إلى حب الخالق ونِعمه على الخَلْق، وحب الطبيعة وخيراتها على المدينة وحب الصحراء وما تمنحه من راحة نفسية ومصالحة مع الذات، لذا نصح الشيخ الحكيم “سيدي” ماجدة بأن تبيت بالعراء في الصحراء تتوسد الرمل وتلتحف السماء وهو ينشد معها جزء من قصيدة جبران خليل جبران على لسان فيروز: ((أعطنِ الناي وغني.. فالغناء سر الوجود.. وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود)) إلى أن يصل للبيت: ((هل فرشت العُشبَ ليلاً وتلحّفتَ الفضا… زاهداً في ما سيأتي ناسياً ما قد مضى؟)).
وبالفعل هذا ما سيحدث مع ولماجدة حين تفترش الرمل وتلتحف السماء، فتلج في نوم عميق تشعر على إثره صباحا كأنها نامت دهرا وليلة وأنها تصالحت مع نفسها، ونسيت ماضيها وخوفها من مرضها قبل أن تعود للارتماء في حضن زوجها الذي لحق بها إلى الصحراء. دون نسيان تأثير الشيخ “سيدي” والذي أدى دوره بتحكم مهني مقنع الفنان محمد بوشايت، دليلها ومرافقها في هذه الرحلة التي تغدو سفرا روحانيا داخل الذات. فكان لا يفتأ يزودها بحِكَم ودروس يمرر بعضها إما في أبيات شعرية كما في قصيدة “أعطنِ الناي” أو في أبيات من الشعر الحساني حبذا لو عمل المنتج على كتابة عنونة لها Sou titrage باللغة العربية ليفهمها ويتذوق جماليتها بقية المشاهدين المغاربة والعرب غير الصحراويين. كما ورد بعض هذه الحِكم في أقوال مأثورة عن بعض الناسكين والصوفين مثلما جاء على لسان جلال الدين الرومي:
((من تركَ ملكْ.. ومن ملك أعطى.. ومن أعطى فُتحت له ابواب الحب الذي هو غاية كل مخلوق)).
2– لنصوِّر، نتأـمّل ونضحك.. لِمَ لا؟
اهتم الفيلم بالجانب الشكلي كثيرا حتى كاد هذا الجانب يطغى ويلتهم الحكاية أو الحكايا التي يحبل بها طرحه الفكري، فقدم لوحات طبيعية لفضاءات ومعالم صحراوية بما فيها من كثبان رملية ووهاد وليالي مقمرة. ومدينة الداخلة ببحرها الأزرق الصافي وجزره في أوقات متباينة غسقا، فجرا، صباحا، نهارا، غروبا وليلا حين ترصع سماءه النجوم أو ينيره بدر كامل الاستدارة ويعم صمت شامل لا يُسمع فيه إلا خفقان الوجدان، يؤثثه أنين ناي يأتي من بعيد حيث تم توظيف الكاميرا الطائرة “الدرون” بوفرة لتأطير اللقطات من فوق منحتها جمالية خاصة بعدسة سيلفان رودريغيز.
ولا ضير في ذلك، فبلادنا تزخر بتضاريس طبيعية فُتن بها كثير من السينمائيين العالميين لا سيما الصحراء منذ (لورانس العرب) لدافيد لين 1962، مرورا ب (شاي في الصحراء) بيرناردو بيرتلوشي 1990، هذا الأخير الذي أبدع في تصوير الصحراء المغربية في كثير من تجلياتها في أزمنة مختلفة وكأنه يغازلها، إلى (المصارع) لرادلي سكوت في جزئيه الأول 2000 والثاني 2024. لذا حري بالسينمائيين المغاربة أن يهتموا بالعنصر الجمالي الذي تزخر به بلادنا بما فيها من سهول، بحار، غابات، بحيرات، شواطئ، جبال، ثلوج ، رمال ، وديان وغيرها.
السيناريست عبد الإله الحمدوشي عينه أقر بأنه صاغ سيناريو فيلم روائي عن مدينة الداخلة لإبراز مفاتنها وليس سرد قصة مشوقة ولا حتى معقدة داخلها، دعّمه في طرحه هذا المخرج خالد براهيمي، ولذا قد تبدو حكاية أو حكايا الحب التي شملها الفيلم ربما بسيطة، بل لم يخْلُ بعضها بنوع من السذاجة والافتعال، مثاله هجوم طليق حسناء عليها وهي وسط كوكبة من النساء في مسابقة رياضية للجري ليدخل في عراك مع مدربها. فلو ترك هذا الزوج المصلحي يهاجم طليقته في دهاليز الفندق حيث تنزل وحيث كان يظهر من حين لآخر وهو يحاول الاختباء، مما منح المشاهد التي بدا فيها بهذا الوضع قدرا من التشويق، أو في حديقته أو حتى بالشاطئء حيث يمكن أن ينفرد بها، لربما كان ذلك مقبولا.
لكنها هِنة لم تؤثر على السياق العام للفيلم والذي تغيأ أفلمة مدينة الداخلة في قالب روائي موشح بحكايا حب مركب ومتشعب كما سبق تبيانه، في منأى عن الوثائقي. فحتى مشاهد قوافل الجِمال والخيام وجلسات الشاي الطويلة، لم يركز عليها بل مرت بخفة ضمن السياق العام للسرد. دون أن يكف عن مغازلة عدد من تضاريس المدينة لا سيما البحر بشواطئه وجزره حيث تمارس رياضة القوارب والطيران الشراعيين عبر لقطات أخّاذة، معززة بطروحات أخرى من أهمها الجانب النفسي والروحاني وكذلك الكوميدي جسده بالخصوص سائق زوج ماجدة الذي لا يفتأ يغازل حبيبيته عبر هاتف متقطع الاتصال والتواصل وهو يناديها ب “كْريْطينتي” أو”كْريْطينة قلبي”. ساندت كل هذا موسيقى تصويرية متحت من فنون الگدرة، گناوة، الناي، وقّعها الفنان عادل عيسى.

- فاز(حب في الداخلة) بالجائزة الكبرى في الدورة الأخيرة للمهرجان الإفريقي للسينما والوسائط السمعية البصرية في ساحل العاج (سبتمبر 2025).



