فن وثقافة

“حكايات الحي العتيق” رواية الواقع بواسطة الواقع

على الطريقة الروائية الأمريكية

نورس البريجة: خالد الخضري

بتعاون مع المديرية الإقليمية للثقافة والمكتبة الوسائطية إدريس التاشفيني بالجديدة، نظمت  جمعية البريجة للثقافة والفنون بنفس المدينة حفل تقديم وتوقيع رواية: (حكايات الحي العتيق) للكاتب، الصحفي والسيناريست عزيز الساطوري، مساء يوم السبت 28 دجنبر 2024 بالمكتبة الوسائطية إدريس التاشفيني بالجديدة، حضرته ثلة من المهتمين بالشأن الثقافي بالمدينة

قام بقراءة وتقديم الرواية الكاتب والناقد مبارك حسني الذي تعذر عليه الحضور لظروف قاهرة، فناب عنه في تلاوتها  السيناريست والناقد السينمائي خالد الخضري الذي سير الجلسة، حيث طُرحت عدة أسئلة على الروائي عزيز، أجاب عنها بإسهاب شاكرا الحضور أولا على تلبية الدعوة كما السيد عبد الله السليماني مدير المكتبة الوسائطية، إلى جانب المديرية الإقليمية للثقافة طبعا والجمعية المنظمة للنشاط. ومن أهم ما ورد في كلمة الساطوري الدوافع التي حفزته لكتابة الرواية بعدما كان ينوي نشرها على حلقات بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” التي يشغل فيها منصب رئيس قسم الأخبار. لكن ظروف الحجر الصحي إبان جائحة كورونا التي ألزمته المكوث في البيت كبقية معظم المواطنين، أتاحت له متسعا من الوقت لصياغتها على شكل رواية.

كما أفاد أن الرواية تمتح من جزء يسير من حياته، لكن دون أن تكون سيرة ذاتية وإن كتبت على لسان الراوي. فهي مواقف وأحداث عاينها وعاشها المغاربة جميعهم على امتداد خمسين سنة منذ سبعينيات القرن الماضي حتى ما بُعيد الجائحة المومأ إليها. وعن سؤال حول الفرق بين تقنيات كتابة الرواية والسيناريو، رد أن لا هناك فرق يذكر، فقط في السيناريو “وأنا أكتب  – قال عزيز- أضع عيني على الإنتاج، وأتفهم هذا لمعرفتي بالإكراهات المادية للإنتاج السمعي البصري ببلادنا. وكلا المتنين: الرواية والسيناريو يحتاج إلى تصميم أو خريطة طريق مع تفصيل لشجرة الأشخاص مع أوصافهم وكذلك الأحداث بدقة حتى لا يزوغ الكاتب عن الموضوع”.

فيما يلي ورقة الكاتب مبارك حسني تحت عنوان: ” رواية الواقع بالواقع”

1 – خصوبةٌ حكائيةٌ

ما الذي يجعل روايةً ناجحةً ؟ بالمعنى الأدبي أقصد. الجواب هو قدرتها على عدم الزيغ عن مسار الحكي الذي ارتضاه كاتبها منذ البداية. أي ألا يفقد بوصلة الحكي مع كثرة الشخصيات المرسومة، وتشعب الأحداث المروية، وتداخل الوقائع في تسلسلها الزمني وتنقلاتها المكانية. وهذا لا يحدث إلا إذا وجدت حبكة روائية مربكة، محملة بأسئلة واضحة، مُهيكلة حسب هندسة بائنة لكل عناصرها، تجعل القارئ يبحث بالضرورة عن حلٍّ، عن مَخرجٍ، مع ما يستلزم ذلك من تشويق واجب.

“حكايات الحي العتيق” تحقق ذلك، وأقولها بلا تردد. لأنني بكل بساطة عشت التجربة كما عهدتُ ذلك في روايات سابقة، فعشت تجربة قراءتها حسب ما أوردته في الحال. عزيز الساطوري يحقق الشرط الروائي، حبكةّ وتشويقاً. ويحققه في مكان محصور الذي هو زقاق أو “دريبة” في حي من الأحياء الميثولوجية للدار البيضاء وإن كان لا يحضى  كثيرا بالترويج، على غرار مثلا درب السلطان أو الحي المحمدي. عزيز الساطوري يحقق التوازن، بوضع درب غلف في التشييد الروائي المغربي، وإن كان هذا ليس ضروريا فيما نحن بصدد قراءته، لكن لابد من ذكره، لمن يهمه الأمر.

غير هذا كل أحياء كازابلانكا تتشابه كما كل أحياء الأناس البسطاء في مدن العالم الميتروبولية. نرى هنا تنويعا لها بقلم عزيز الساطوري. لأن ما نستخلصه في آخر المطاف هو البعد الإنساني الجامع في محكي له خاصية الكونية، وقد ارتدَتْ لبوس شخصيات زقاق من أزقة درب غلف ـ الحي العتيق ذات زمن امتد من السبعينيات إلى حدود ما وراء أزمة كوفيد.

وهو محكي على لسان شخصية راوية،  هي في الغالب الكاتب، يروي مجريات ومعيش الزقاق منذ طفولته الأولى إلى أن صار شابا. يروي ما يراه أمامه وما يسمعه حواليه أو ما يتناهى إلى سمعه من أحاديث الكبار في فرن الزقاق أو أحاديث الكبيرات على السطوح أو حين يجتمع الكل أي العائلات لفرح أو لقرح، وما أكثرها في الرواية، بل هي التي تنقط مسار السرد وتدفعه أماما. لكن الذي سيضيف الميزة الخاصة للرواية، ويمنحها عصبها الذي عليه تتكأ هو وقوع جريمة ذات ليلة رمضانية. فذات يوم حلَّت فتاة عزباء وحيدة، وسكنت لوحدها في غرفة في سطح عمارة. وهو ما سيرُجُّ هناء الحي. وهي التي ستُقتل. وكأي رواية بها قتلٌ، لا بد من تحرِّي وبحث عن القاتل وأسباب القتل.

لكن ذكاء الروائي عزيز الساطوري، هو عدم الاعتماد على هذه التوليفة المعروفة بكل ملابساتها. بل توظيفها لتعميق حكيه عن الحي وأناسه. ولهذا قام بتتبع آثار الحدث على السكان، وتعاملهم معه، في خضم معيشهم البسيط الذي لم يتغير.

2 – شخصيات رجالية متفردة

وبالتالي، تداخلت أمور حياتهم مع الحدث. خاصة لدى شخصيات ذات صفات وسلوكات مُجهَّزة كي تكون شخصيات روائية حقيقية. هناك خال الرواي، الذي يقطن عريشة أو غرفة القصب وهو مثقف الزقاق، بمعنى من المعاني، ” والذي “كان قارئا لا يكل، وسمى ذلك باللوثة التي أصابته في سن مبكرة” (65)، وهو الذي يمنح الأجوبة الشافية للراوي. مقتل سميرة سيمنحه فرصة العمر لتدبيج وتخييل تحليلٍ منطقي يمكِّنه من معرفة القاتل، وصار شغله الشاغل، مًدوِّنا ما يعتبره ديباجة رواية بوليسية. وهناك نجيب، نموذج الخائب الأبدي، الذي جرَّب كل شيء ولم ينجح في أي شيء، وانتهى به الأمر متديناً واعظاً، رغم جهله. والقونصو،  العاطل الدائم والإسكافي المؤقت الذي “يمشي بخيلاء ويحادث من يصادفه بثقة غريبة” (80)، وقصة حبه الحزينة. هناك الروبيو الذي سيخيب هو بدوره في قصة حبه والذي سيدخل السجن فيما بعد، قبل أن يهاجر إلى الخارج. وهناك العْمُود العاشق السري. شخصياتٌ بسيطة الوضع الاجتماعي، بسيطة المهنة، لكل منها ملمح خاص جعلهم قلم الكاتب جد جاذبة وحية، خاصة أنها كلها ستصاب بخيبات وجودية.

3 – شخصيات أنثوية مُقررة

وبذات الجاذبية رسم الكاتب شخصيات أنثوية، هي من يقرر الحكي ومساراته عكس الشخصيات الذكورية المذكورة أعلاه. هناك سميرة القتيلة التي أنزلت لعنتها بالزقاق. وحياة أجمل فتاة به، عشيقة الروبيو والعراك الدامي بين عائلتيهما،  وزبيدة ابنة الصباغ التي ستصعد اجتماعيا بتخرجها طبيبة، وهناك مونية الوديعة وعلاقتها الغامضة بسميرة القتيلة. علاقةٌ غريبةٌ ستكثف من اللعنة عقب القتل، والذي شكلت الحدث الرئيسي الأول، الذي قلب حياة الزقاق. هذه العلاقة هي الحدث الرئيسي الثاني المُغيِّر لكل شيء، وسيوجه دفة الحكي لتدخل الرواية منعطفا غامضا مليئا بالأسرار التي ستنكشف مع توالي الصفحات، وتَجِبُ قراءة الرواية للتعرف عليها.

هن نساء مالكات للسر في مواجهة رجال تقتادهم الأحداث بشكل عفوي، وكلهم من جيل وسط، محكوم في ذات الوقت بقوة العادات والتقاليد، التي تحكم سلوكات الآباء والأمهات، كشخصيات لها سلطة المنع والأمر والقبول في أمور الحياة الفاصلة. وهو ما سيتلَوَّن تدريجيا بتأثير زحف الحداثة والتمدن الحثيث، الذي يصف مساراتها عزيز الساطوري عن طريق ما يلتقطه ويعيشه الراوي طفلا ومراهقا ثم شابا.

4 – سرد يضبط التشابك

وهكذا نرى بأن عزيز الساطوري قام في عمله الروائي هذا، بكتابة سيرة متعددة ومتمازجة العناصر. سيرة ذاتية في الخلفية، لشخص يتعلم دروس الحياة في منزل مشرع الباب على حي سكني له مخرج واحد. وبالتالي يتابع القارئ سيرته عبر الأسَرِ التي أسسته وتكوِّنه كمجتمع مصغَّر يخضع لكل ما يخضع له البلد طيلة تاريخ محدد زمنيا (خمسون سنة). وبالتالي فهو يتابع أيضا سيرة وطن.

في ذات الوقت، لجأ عزيز الساطوري إلى حيلة الحبكة البوليسية الممتعة بغض النظر عن الوسط الجغرافي والبشري حيث تجري وقائعها.  يقول الراوي/الكاتب في الصفحة الأخيرة :”وقائع احتلت حيزا كبيرا من تفكيري، أحاول ترميم ذلك الشتات من الأحداث وصرت كلما أمر بالقرب من درب غلف، أتذكر ما وقع، وأحاول أن أربط بين الخيوط المتناثرة، أن ألم بالحكاية في مجملها، وأسال نفسي، كيف يمكن أن أكتبها، وفي الحقيقة، فإن حكاية الزقاق، حكايات ناسه، منذ أول يوم لإنشائه، ما تزال مستمرة، وستظل كذلك ما دام قائما، فمع كل جيل جديد، حكايات جديدة ستستمر ما استمرت الحياة، حكايات تطغى على الأخرى، وجيل يشق طريقه، ويرسم تفاصيل حياته الخاصة.” (217)

نورد هذا المقطع للتأكيد على أمر في غاية الأهمية بالنسبة لجنس الرواية. لقد أعتمد عزيز الساطوري على أسلوب لصيق بالأحداث بتفاصيلها وارتباطاتها المنطقية، ولم يجْنَحْ قط إلى التبرير البلاغي وتفسير ما يجري بالوقوف على دخيلة كل شخصية. اختار بشكل موفق أن يعطي للعامل الاجتماعي الدور الأكبر، بموازاة  مع تفاعله مع كل مستجد، تاركا للتصرفات والسلوكات دور البوح عن العامل النفسي. هي من تجعل القارئ يتعرف عليها. هي رواية الواقع بواسطة الواقع الحي المتحرك. على الطريقة الروائية الأمريكية.

 

 

 

 

 

 

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button