حصرياتفن وثقافةكتب

جامع الفنا، “شامة مدينة مراكش” وغيهب الأسرار والمجهول

ساحة جامع الفنى تناجي نفسها

    نورس البريجة: خالد الخضري

عبد الواحد الطالبي

صدر للباحث والإعلامي المراكشي الأستاذ عبد الواحد الطالبي كتاب “ساحة جامع الفنا تتحدث عن نفسها” في 280 صفحة من الحجم الكبير، جمع فيه ثلاثين حوارا مع شيوخ الحلقة وثرات جامع الفنا، سبق له  نشرها في 30 حلقة بعدد أيام شهر رمضان، في جريدة ” العَلَم” سنة 2001.

الاستنتاج أو الشعور العام الذي يهيمن عليك حين قراءة هذه الأضمومة الحوارية، هو الوجع والأسى على واقع ومستقبل هذه الساحة وهؤلاء الشيوخ – متى وجد – والذين طالما رفهوا عن زوار مدينة مراكش مغاربة وأجانب وعن ساكنتها، أضحكوهم، أطربوهم، غذوهم ورووهم، حتى وهم في أشد حالات العيش ضنكا والصحة سقما، والفقر قدرا. ففرسان الساحة هؤلاء منهم من ترجل قبل الوقت، منهم من تدنى به الزمن، ومنهم من اقتنى تذكرة ذهاب دون إياب. فأغلبهم – إن لم يكونوا كلهم – سقطوا ولا زالوا يتساقطون تباعا دون ذروع واقية من غدر الزمن، ولا ضمان على الأقل ”موت سعيد” على حد تعبير ألبير كامو، ما داموا لم يحققوا عيشا كريما.

فكل محاوَر تسيِّجه سيرة / حكاية ظلماء حتى وإن كان مهرجا يفجر الضحك مثل المسيّح، أو الملك جالوق، أوباقشيش أو الثنائي الربيب والمعاشي… مما جعلني شخصيا أستغرب متسائلا: كيف يستطيع هؤلاء الذين يتَبِّلون لقمة العيش بعرقهم ويغمسونها بدموعهم، أن يُضحكوا ويُطربوا رواد حلقاتهم؟ ويشحنونهم بطاقات إيجابية تحفز على الإقبال على الحياة من أبوابها الواسعة المشرعة على الضوء؟ في الوقت الذي بالكاد هم يمرقون بأجسادهم النحيلة من أبوابها الضيقة المفضية إلى العتمة؟

فكل شخصية من هؤلاء أوكل ثنائي أو مجموعة تستحق كتابا مستقلا، أو فيلما سينمائيا ومع ذلك لن يوفيه حقه كاملا في التعريف به وبسط معاناته وطريقة عيشه وعمله. والواقع أن الأستاذ الطالبي بذل جهدا خرافيا للم شتات هؤلاء الفرسان ولو على صفحات جريدة قبل أن يوثقهم بين دفتي كتاب وخيرا فعل. إنه بشكل أو بآخر أنجز عن كل من ذكر فيلما وثائقيا قوامه الحرف والكلمة بدل الصوت والصورة، بواسطة أسلوب انسيابي يستهويك لقراءة الكتاب من أوله لآخره، وقد شطره إلى شطرين:

الشطر الأول: التقديم

1- كاتب متورط

لم يقدم عبد الواحد الطالبي فرسانه بأسلوب تقريري جاف ولا محايد بل وهو- وكما يحدث في السينما – وظف قلمه / كاميرته بطريقة ذاتية Caméra subjective تجعل الكاتب متورطا في الحكي من الداخل وكأنه هو المعني  بالأمر. أو بعبارة أدبية صرفة: كأنه يتكلم بلسان حال محاوَرَه مركِّزا على نوعية عمله وموظِّفا أدواته وخصائصه دون أن يعلن عن هويته مباشرة، فيجعلك تتماهى مع نغمات المعني بالأمر أو تستمع لآلاته الموسيقية متى كان مطربا، أو تتذوق أكله متى كان طباخا، أو تحتسي شرابه متى كان سقاء وكأنه يشحذ ذكاءك بلغز حكائي أو “حجّاية” مما هو شائع لدى المغاربة لا سيما في جامع الفنا بمراكش، حيث يبدأ السائل ب: ((حاجيك وماجيتك عن امرئ  يتكنّى  بحرف كذا… وهو كذا وكذا…)) ومع استمراره في بسط الخطوط العريضة أو المعالم الكبرى للشخص أو الشيء المبحوث عنه يتعرف المستجوَب عليه، مثلما فعل مع بائع الماء الجوال أو (الگرّاب) السي محمد أبو الدين حين قدمه في الصفحة 173 :

« ذاكرة شابة تسترجع الأحداث بدقائق التفاصيل لقرن إلا عقدين، غدير رقراق وعين منسابة انسيابا هادئا عذبا زلالا كعيون مراكش قبل أن تغيض، هذه الذاكرة لرجل حَرِض شققت جبهته فأس الزمن، وانحنى ظهره قوس باب لساحة جامع الفنا. كلامه شهد عسل لسكر يجفف ريقه بينما الماء يسيح لغيره، يبلل الأجواف والأرياف، يصبه من قربته رقراقا يتغنى: يا مراكش كان وريدة كان».

فمن خلال هذا التقديم تعرف أن المعني بالأمر عمره 80 عاما (قرن إلا عقدان) ثم تسمع قرقرة الماء بين السطور حيث لا يخلو سطر من جريانه أو وهو يسكبه للآخر من جرابه / قربته يروي عطش الظمآن،  فتفهم أو تستنتج مهنته من غير أن يقول لك: إن هذا الرجل “گرّاب”: (بينما الماء يسيح لغيره، يبلل الأجواف والأرياف، يصبه من قربته رقراقا يتغنى).

2 –  أهل جامع الفنا أدرى بحلاقيها

وظف الطالبي في سِفره عددا من المحسنات البديعية من فن البلاغة لاسيما فن “الجناس” حيث تتشابه المصطلحات في تركيبتها الحرفية وتختلف في معانيها كقوله في الصفحة 17: «كلام من إبريز لمحمد باريز» وإبريز هو الذهب الخالص. وفي نفس الصفحة يقول عن شغف هذا الحكواتي الشهير بساحة جامع الفنا: «هِمت بها فهَمَّت بي». ومحمد باريز أصبح شهيرا على مستوى كبير حين غدا المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يستعين به لحكي أحدث بعض الأفلام لفاقدي وضعيفي البصر، وقد سبق لي حضور إحدى حصصه وأغمضت عيني ثم استمعت إليه فكأنني شاهدت الفيلم.

هذا دون أن يطنب الطالبي في توظيف هذه المحسنات كما بعض الحِكم  ومصطلحات يلزمك معها أحيانا قاموس للشرح، فإنما هي تأتي نتفا واصفة أو معززة للمعنى المراد إبلاغه كقوله في الصفحة 23: «الشعراء العرب في أسواق الشِّعر كان شِعر قصائدهم طويلا وشَعر رِؤوسهم طويلا». حتى بعض عناوينه حلت مثل عناوين أدباء العرب القدامى بما تعبق به من نَفَس شعري وجرْس موسيقي موشى بالسجع والقافية ك: «بغية الأريب في سيرة التأنيب والتأليب.. وكشف المكنون في حكاية النون بساحة جامع الفنا والفنون» (ص:17).

أو مثلما قدم المسيّح / المهرج بيسر يجعلك تتعرف على هويته: «خفيف الوزن، خفيف الحركات كفاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، يبدو كفأر أليف للتو خرج من الجحر إلى عالم يتحرك فيه مندهشا مبهورا. خلق الله صورته كوميديا، إذ تراه تضحك قبل أن تسمعه» (ص:133).

وطبعا لكي تساير الطالبي وتتذوقه، عليك ن تكون ملما بلغة الضاد لتدرك أن التفعيلة الشعرية التي قدم بها الكاتب هذا الرجل “الخفيف” الظل هي المفتاح الشعري للبحر “الخفيف”:

«يا خفيفاً خفت بهِ الحركاتُ

فاعِلاتُن مُستَفعِلُن فاعِلاتُن»

والأمثلة كثيرة، فكل التقديمات سارت على هذا المنوال العربي الرصين ثم الحكائي “الحجّاياتي” الشعبي حيث يمكنك تحويل كل تقديم إلى “حجّاية”. ولا غرو في ذلك فالطالبي ابن بيئته، ابن ساحة جامع الفنا متفرجا، باحثا وموثقا. وأهل جامع الفنا أدرى بحلاقيها وشيوخها. وهذا يسوقنا تلقائيا إلى الحديث عن الشطر الثاني للأسلوب الذي به صاغ كتابه وهو:

الشطر الثاني: الحوارات / المعلومات

1 – وثيقة دسمة

الكتاب زيادة على متانة لغته وجمالية أسلوبه وفير بالمعلومات عن فرسان ساحة جامع الفنا بمن فيهم  الموسيقيون والراقصون والبهلوانيون والحكواتيون والمادحون والمهرجون ومروضو الحيوانات والثعابين وقارئو الطالع والسقاؤون وأصحاب المطاعم والوعّاظ والمرشدون والعشّابون والواشمات بالحناء والواشمون، كما يقدم فيضا من المعلومات عن منتوجاتهم وأغانيهم وعيوطهم وأنواع آلاتهم بمقاماتها وأوتارها وأكسسواراتهم وألبستهم مع كيفية اشتغالهم وتمارينهم متى حلت إلخ…

هو كتاب وثيقة دسمة حبذا لويتم دعمه من طرف وزارة الثقافة أو من  لدن المجلس البلدي ومندوبية السياحة بنفس المدينة، لإخراجه في حلة قشيبة على متن ورق صقيل (115 /130 غرام) وصور بالألوان مع ضرورة تحيين المعلومات نظرا لتوقف وهجرة أو وفاة عدد كبير من المحاوَرَين فيه، حيث مر على إنجاز تلك الحوارات قرابة ربع قرن. وستكون الفائدة أهم والانتشار أعم متى تُرجم على الأقل إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

بعد ذلك يتم توزيع النسخ – بيعا- في الفنادق ووكالات السفر والمطار والمآثر السياحية كقصرَيْ الباهية والبديع ودار السي سعيد وضريح السعديين وصهريج المنارة كما في المقاهي والمطاعم التي يرتادها السياح بوفرة مغاربة وأجانب. وكذلك في مكتبات المدينة وأكشاء الساحة ذاتها وببقية المهرجانات الوطنية والدولية التي تنظم على الأقل بمدينة مراكش،  منها المهرجان الوطني للفنون الشعبية والمهرجان الدولي للفيلم، فلي اليقين أن السينمائيين في هذا الأخير سيتهافتون عليه لإنجاز أفلام وثائقية عن بعض شخصياته. وسيجد الكتاب من الرواج المعنوي والمادي ما يجعل نسخه تنفذ في ظرف زمني وجيز مهما بلغ تعدادها. فها هما وزاراتا الثقافة والسياحة تطبعان من الدلائل والكاتلوغات العدد الوفير، لا أحد يقرأها ولا تقدم من المعلومات والصور سوى قشورا براقة. (*)

2 – تعددت الأسماء والمسمى واحد

تمنيت من الأستاذ الطالبي لو قدم تعريفا ولو مختصرا لساحة جامع الفنا من حيث تسميتها؟ من أطلقها عليها؟ متى وكيف تم ذلك؟. وأن يختار للكتاب عنوانا أشد جاذبية، فعنوان “ساحة جامع الفنا تتحدث عن نفسها” تقريري ويحيل مباشرة على أغنية “مصر تتحدث عن نفسها” لأم كلثوم، بينما الكتاب نفسه يعبق بالوفير من العبارات والنصوص التي من صلبها يمكن أن ينتقي عنوانا أكثر شاعرية مثل:

– ساحة جامع الفنا “شامة مدينة مراكش” أو “عكاظ مراكش” أو”ساحة الفرجة والبهجة” أو”غيهب الأسرار والمجهول”  أو “جامع الفنا جامع الربح والغنى” … هي مجرد اقتراحات طبعا لا تحول دون غزارة معلوماته وأوصافه لهذه الساحة الخرافية. من هذه الأوصاف والنعوت ما ورد على ألسنة فرسانها ذواتهم في عبارات تتباين درجات طولها ومعانيها. وقبل أن نسوق بضع أمثلة عن هذه التعاريف أو شهادات شهود من أهلها، نورد أولا ما وصفه بها المؤلِّف عينه في الصفحة التاسعة كاتبا:

«في الساحة لكل دي حاجة وطره، ولكل ذي منية لغيته ورجاؤه. ساحة جامع الفنا، عصية عن التعريف، صعبة أن يكون لها مثال، وهي ليس لها مثيل. تبدو ساحة من إسفلت تحيط بها دكاكين ومقاهي ودروب وإدارات تموج فيها كائنات بشرية، بحرا موارا من الحركة والصخب، ركحا للفرجة وتزجية الوقت… وأبله من لا يزورها إلا هكذا، وهكذا يلتقط لها صورة أو صورتين من  على سطح مقهى مطلّ، وأبله أيضا حتى من يحاول بل يفكر أن يبدع فضاء مشابها لها في أية جهة من المعمور. جامع الفنا غيهب الأسرار والمجهول، فناء سحر يدغدغ الكيان ويسلب العقول، صرح بناء لقدر مجنون من ساقه إلى ساحتها ولم يدخلها دخول الفاتحين كان حظه في الدنيا قليلا».

ثم ننادي على شهود الساحة ليدلي كل بشهادته. فهذا الشرقاوي المجذوب مول الحمام والرگيلة يقر أن: «ساحة جامع الفنا هي جامع الربح وجامع الغنى وليست جامع الفنا” (ص: 59). وهذا الفقيه عياد الواعظ الديني يؤكد أن: «ساحة جامع الفنا بسيطة وساذجة لكنها عصية، سهل دخولها وصعب الاستمرار فيها» (ص: 73). وكذلك قول المعلم العيساوي محمد بن زياد (النمر) حين عبر: «كانت ساحة جامع الفنا مبهجة متسعة ذات فرجة كبيرة تسلب العقول» (ص:80). أو ما صرح به حسن لبزاطمي مقدم حلقة أولاد بن يفو: «ساحة جامع الفنا أمنها محمد الخامس للدراويش والمجاذيب والولوعين بالفن والإبداع والمخصوصين بالحكمة والبركة والبركة» (ص: 128).

أما عبد الرحمن الترگي المسكون بحب جامع الفنا فقال: «إن جامع الفنا اليوم طلل مأهول، صرح الفرجة، فيها هوى من زمان». (ص:143) ثم أضاف:«ساحة جامع الفنا شامة مدينة مراكش». الشيء الذي أكده إدريس القرداتي  في الصفحة153 بقوله: «إن ساحة جامع الفنا هي ساحة الفن».

وتتناسل أوصاف ونعوت الساحة بتناسل فرسانها، حكاياها وحكواتيها،  كما تختلف تعابيرها، مصطلحاتها ومعانيها، لكنها تتفق جميعها في ”الروح” روح الساحة التي تأسر روادها وشيوخها حيث يرسب الشجن، يجثم الكمد ويستفحل الألم في سويداء القلب عما كانت عليه وبما آلت إليه، أو على حد تعبير نقّاشة الحناء الواشمة حفيظة الحايدي المعروفة ب ”الهيبية” حين أقرت في الصفحة 162: «يلمس زائر ساحة جامع الفنا أنها تطهرت وتحسنت وهذا وجهها، أما الوباء فهو كامن في العمق». واقع أليم يؤكده شيخ حلقة اولاد الحوز جيلالي تشيكولي الذي أضحت الساحة تضيق عليه وعلى مجموعته يوما بعد يوم حين عبر بأسى: «إن من لم يجب نداء الخبز مات في ساحة جامع الفنا جائعا. وبصراحة قاسية فما دامت دعوة الخبز قائمة، فالتغيب عن الساحة مستمر وذلك، بألم !!» (ص: 169). حتى عبد الحكيم   (لقرع) المشهور بطقطوقة “كيلي جولي” فرغم أنه يقر أن ساحة جامع الفنا هي «جامع الربح والتيسير». فإنه لا يلبث أن يردف آسفا أنه فيها أيضا «حقوقنا منزوفة وكرامتنا مستباحة» (ص: 47).

لكن تبقى عبارة بسيطة التركيب وغير مغرقة في الشجى، تعبر عن قوة وأصالة جامع الفنا. عبارة ذات صبغة إدارية بل علمية فاه بها الصحفي والأديب الإسباني خوان غويتو صولو الذي إليه يرجع الفضل في اعتراف منظمة اليونسكو بساحة جامع الفنا تراثا شفهيا للإنسانية سنة 1999،  من خلال مقال كتبه حولها في جريدتين إسبانيتين بعنوان: “التراث الشفهي للإنسانية”. هذا الباحث الإسباني كان بدوره ضمن محاوَري عبد الواحد الطالبي حيث صرح: «يمكن إفناء ساحة جامع الفنا بقرار إداري، لكن يستحيل إحداثها أو إبداع شبيه لها بقرار إداري» (ص: 29). بل هو يرى أن الساحة ليست فقط “متحفا لا مرئ يعشق القديم، بل إنها أيضا أفق المستقبل، مستقبل مراكش الذي يتطلع إليه سكان المدينة بكل الآمال و الأماني».

لهذه الأسباب

إن كتاب “ساحة جامع الفنا تتحدث عن نفسها” لعبد الواحد الطالبي يعتبر:

مضمونا: وثيقة معلوماتية دسمة

شكلا: ناقوس إنذار

للانتباه إليها ومنحها ما تستحقه من: عناية، صيانة، ترميم وتوثيق كتابي، سمعي وبصري وبجميع اللغات العالمية ما دامت “تراثا إنسانيا” وليس فقط مغربيا، قوامه الأساسي هو “العنصر البشري” وهذا إذا ضاع أو تلاشى لا ولن  يُرمَّم أو يُعوض، لأن هؤلاء الشيوخ لم يتخرجوا من معاهد ولا مدارس تدفع بالأفواج تباعا، بل انبثقوا من رحم الحارة والسهل والجبل والبادية المغربية، وتربوا في حضن الشعب منه استمدوا فنهم، وفيه أينعت خفة دمهم  واستقامت أجسادهم ولعلعت حكاياهم. فمثلا من يستطيع أن يعوض: مول الحمار الذي كان يجعله يضحك ويرقص ويدخن؟  ومن يعوض باقشيش وابن حمامة وعزوز البحباح؟ ومن يعوض المسيح وعلال الگناوي وعبد الكريم  الفيلالي ومولاي احمد الفطين؟ ومولاي مبارك المدحان والشرقاوي مول الحمام وصاحبه “لبصير” بن فايدة اللذين منحا لكل طير من الطيور أصلا وموطنا الأول يسأل والثاني يجيب: الحمامة منين؟ – الحمامة مكاوية  – بلّاج منين؟  بلّارج حسناوي – الجمل منين؟ الجمل دكالي إلخ…

ورغم اعتبار ساحة جامع الفنا تراثا إنسانيا، فلن ننتظر من منظمة اليونيسكو ولا من أية دولة أخرى أن تنتبه لهذا الناقوس / الكتاب فتبادر إلى العناية به وبهذه الساحة بالشكل أو الأشكال التي اقترحها واقترحناها نحن أيضا وكذلك فعل كثير من شيوخها، لأن المسؤول الأول عن هذا وزارتا الثقافة والسياحة ومنتخبو مدينة مراكش بمجالسها سلطاتها وجمعياتها. وأول شيء يجب إحداثه متحف خاص بالساحة يجمع فيه أرشيفها من كتب، بحوث، صور، مخطوطات، أفلام وشرائط سمعية وبصرية وثائقية وروائية، حيث صورت فيها عدة أفلام عالمية ضمنها فيلم (الرجل الذي يعرف كثيرا) لألفريد هيتشكوك سنة 1956 يبدو فيه  وهو يتفرج على حلقة من حلاقي الساحة. كما يضم المتحف أيضا بعض الأكسوسوارات من ملابس وأدوات اشتغال عدد من فرسانها الذين توقفوا عن العمل بسبب العجز أو المرض أو الموت أو الهجرة… كما على الجهة المسؤولة عن هذا المتحف أن تشترط على أية قناة تلفزيونية محيلة أو دولية أنجزت أو ستنجز عنها فيلما وثائقيا، أن تمد المتحف بنسخة منه.

يبلغ ارتفاع “برج إيفل” في باريس 324  مترا ووزنه 3700 طن، فلو حدث أن تهدم لأعادت فرنسا تشييد مثيل له وربما أعلى وأثقل منه، بل ها هي “كاتدرائية نوتردام” الباريسية أيضا تشب فيها النار متلفة  عددا من مرافقها، فسعت فرنسا وبمساعدات دولية إلى إعادة ترميمها  بالشكل الذي كانت عليه. لكن لا أحد في العالم يستطيع أن يعوض رجلا بحجم باقشيش لا يصل وزنه 80 كلغ ولا طوله المترين. وهذه مسؤولية المراكشيين بالدرجة الأولى والمغاربة عامة. مسؤولية يؤكدها ما أورده الكاتب الإسباني خوان غويتو صولو حين أورد في الصفحة 31 من الكتاب:

«وحري أن أذكر أن الفرنسيين هم الذين شيدوا برج إيفل، وهو اليوم يعتبر رمز باريس وفرنسا ككل، أما جامع الفنا فتأسست من طرف المجتمع المغربي تلقائيا عبر تاريخ ليس بقرار إداري أو بإرادة سياسية. هي اليوم رمز مراكش، بل رمز المغرب يجب احترامها وحمايتها وهذه مسؤولية الإنسانية ومسؤولية العالم ككل.

ولنتصور أن برج إيفل تعرض لخطر ما، فإن الجيوش الفرنسية ستهب للدفاع عن رمز بلادها، أما الأخطار التي يمكن أن تعترض ساحة جامع الفنا فستستنفر الأمم جميعا والعالم كله لحماية الساحة والدفاع عنها. وكل مساس بتراث ساحة جامع الفنا سيكون فضيحة دولية كبرى، وهذا مبعث افتخار واعتزاز لمدينة مراكش، على المغرب أن يستثمره لفائدة تنمية السياحة وبناء المستقبل».

مولاي أحمد العمراني

(*) السيد عبد الواحد الطالبي لا يبيع الكتاب وإنما وزع معظم نسخه مجانا على الذين حاورهم ومازالوا على قيد الحياة لعلهم يستفيدون ولو قليلا من ريعها. أما الذي تحمل تكلفة طبع الكتاب فهو الدكتور مولاي أحمد العمراني مدير المدرسة العليا للدراسات الاقتصادية والتجارية والهندسية، ومؤسسة العمراني  للتربية والتكوين للبرامج والتدخلات الاجتماعية الإنسانية والأنشطة الثقافية والفعاليات الاقتصادية ذات الأبعاد التنموية لصالح بلادنا والفآت ذات الاحتياج.   فما قام به السيد الطالبي بمفرده، عمل مؤسساتي ينتمي إلى جنس “الدليل” الذي عادة ما تنجزه المؤسسات – الدولة هنا – نظرا لصعوبة إنجازه فرديا. فله وللدكتور العمراني أرفع قبعة التقدير والامتنان.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button