نورس البريجة: خالد الخضري
الجزء (3) والأخير.
من أجمل الظواهر اللافتة للانتباه في شهر رمضان المبارك بالقاهرة، “موائد الرحمان” التي تنتشر بالعديد من شوارع وحارات المدينة في جنبات سيدنا الحسين والسيدة زينب كما في الدُّقّي أو المهندسين، إذ قلما يخلو شارع أو مسجد من مائدة الرحمن. وهي دعوة مجانية ومفتوحه للإفطار وطيلة شهر رمضان لمن يشاء سواء كان من الفقراء أو لم يكن، يتبرع بها ميسورو الحال من الأثرياء لاسيما الفنانون أشهرهم فيما مضى الراقصة فيفي عبده والممثلتان شريهان وليلى علوي كما الممثل الكبير فريد شوقي الذي كان لي شرف الإفطار بمائدته، وكان يخدم المفطرين بنفسه طالبا منهم فقط الدعاء له. إلى جانب عدد من رجال الأعمال وكبار التجار حيث تفرش الطاولات في الشارع ويتم استقبال الضيوف بالابتسامة والترحيب. والهدف من وراء هذه المائدة هو طبعا نيل الثواب والأجر من الله من خلال تحقيق وتزكية واحدة من أهم دعائم الدين الاسلامي الحنيف ألا وهي ”التكافل الاجتماعي”.
رُوي عن النبي (ص) أنه قال: «مَنْ فَطَّرَ فِي رَمَضَانَ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِه وَعِتْقَ رَقَبتَهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ كُلُّنَا يَجِدُ مَا يُفَطِّر الصَّائِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ (ص): «يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ عَلَى شَرْبَةِ مَاءٍ أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ» أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
وحرصا على الحصول على أكبر قدر من الأجر والمغفرة بالنسبة للمضيف عادة ما يقوم بنفسه بخدمة الضيوف بمساعدة ذويه أحيانا. كما أن هذه المائدة تبيح من جهة ثانية لبعض الموظفين أو المستخدمين الذين يشتغلون إلى وقت متأخر قد يتزامن أو يقارب توقيت الإفطار، الالتحاق بها لتناول طعام الفطور، نظرا لعسر الوصول إلى البيت إذا كان بعيدا بسبب الزحام الكفيف قُبيل آذان المغرب وتوقف الحركة نهائيا حين حلوله. وبالتالي ففي أي مكان يحل عليك فيه موعد الإفطار، تجد مائدة في استقبالك تدلك عليها إحدى اللافتات المعلقة بالشارع والتي يكتب عليها غالبا:
“مرحبا بكم طيلة شهر رمضان على مائدة الرحمن” ثم عنوان المكان كشارع سليمان باشا مثلا أو بمسجد عبد الرحمن الكواكبي، وفي بعض المرات يكتب اسم المضيف: “مرحبا بكم عند الحاج فلان على مائدة الرحمن” كما توجد بكل مسجد لافتة صغيرة مكتوب عليها “لجنة الزكاة “بجانبها لوحة “صندوق التبرعات” تشرف من خلاله لجنة على جمع أموال المحسنين لمساعده الفقراء والمعوزين أثناء شهر رمضان بالخصوص والى غاية عيد الفطر لقضاء بعض متطلباتهم الحيوية كدفع ثمن فاتورة دواء أو شراء كتب للأطفال أو كسوة عيد
2 – القاهرة في رمضان مدينة لا تنام
أما عن جو رمضان في ليل القاهرة فهو حقا جو بهيج بشتى المواصفات ويؤكد بالفعل أن القاهرة في رمضان مدينة لا تنام، نظرا لما تسخر به من طقوس احتفالية بهذا الشهر أغلبها ذو طابع اجتماعي سواء من خلال التزاور الأسروي أو تناول الإفطار جماعيا والسهر بعده، لاسيما بالمناطق الشعبية ذات النفحة الدينية كحي السيدة زينب والأزهر الشريف وسيدنا الحسين، حيث تنار الحارات بالفوانيس والمصابيح الملونة ويفوح البخور فتمتلئ المقاهي بالزبائن وهم يتحلقون حول التخوت والعازفين.
من أشهر المقاهي التي لا تكاد تجد مكانك بها إذا لم تحضر مبكرا، مقهى نجيب محفوظ في خان الخليلي والتي يتصدرها غالبا عازف عود يطرب السمار أثناء احتساء الشاي أو القهوة أو السحلب أوالقرفة ويدخنون الشيشة. وهناك مقاهي أخرى ليس بها مطربون لكنها تعج بالزبائن والسياح إلى غاية الفجر، أشهرها مقهى الفيشاوي الشهيرة والتي كتب فيها نجيب محفوظ ثلاثيته، وهي غير البعيدة عن المقهى الأولى. إضافة إلى الشوادر التي تنصب بالشوارع وهي خيمات كبيرة تسمى “الخيامية” تزيَّن بالأثواب المزركشة والفوانيس يردها الناس للاستماع للمغنواتي والحكواتي الشعبي من الزجالين والشعراء وغيرهم.
فهذا الطقس الاحتفالي كله يعطي لليل رمضان بالقاهرة نكهه شيقة تنسيك صيام النهار ووطأة قرهأو حره أيا كان المناخ، وتشعرك بالفعل أن هذا الليل مهما طال قصير، لا سيما وأنت تتفسح في رحاب آل البيت ممنيا النفس ببركات أم هاشم أو مقبلا على هذه العربة اليدوية أو تلك لتناول كوب حمص أو عرق سوس والتي لا تخلو بدورها من نَفَس كوميدي خفيف، نظرا لما يكتب عليها من عبارات وقفشات مثالها:
– ”دق الحمص يا زين وادعُ لسيدنا الحسين” أو ”عمي سيد بيقول: لو خلص الحمص هو مش مسؤول” أو ”كُلوا حمص التلميذ، طِعم ولذيذ” أو ”يا ناس يا عسل أبو محمود وصل” هذا إلى جانب بعض الآيات القرآنية مثل: “وسقاهم ربهم شرابا طهورا” أو على الأقل عباره ”الله أكبر”.
وتستأنف جولتك الليلية يستهويك النغم ويطربك هتافات النوادي المنظوم، والتصفيق وترديد المواويل ورائحه البخور الممزوجة بدخان الفطائر والكباب تزكم أنفك إلى أن تنبهك طبلة “المسحراتي” تدعو الصائم لتناول طعام السحور، وإن تراجعت هذه الظاهرة لقيام الساعة المنبه والتليفون كما الهاتف النقال بهذه المهمة. لك رغم ذلك لا زال بعض “المسحراتية” ينادون في حارت القاهرة للقيام بهذه المهمة، كما يوجد لدينا حاليا عدد الطبّالة الذين يقومون بنفس العمل في كثير من مدننا المغربية.
قد كان الفنان المرحوم سيد مكاوي يقوم بدور المسحراتي كل ليلة لكن من خلال التلفزيون، حيث يبدو وهو في زي شعبي: جلباب وطاقية يحمل طبلة ينقر عليها، تتقدمه طفلة صغيرة بيدها فانوس منير وهو يردد مناديا سكان الحرارة تقريبا كل رب عائلة باسمه الشخصي على فرض أن لكل حارة “مسحراتي” يعرف سكانها وحتى ضيوفها فيقول:
“إصح يا نايم. إصح وحِّد الدايم. محمد معجزاته كثير. الشمس لما تطلع عليه. أسعد الليالي عليك يا فلان. إصح يا نايم، ووحد الدايم.” حين ذاك لا يبقى لك إلا أن تتسحر مستعدا لصيام طويل عن مدينه القاهرة/ مصر وعنليلها المتوهج حتى وإن لم يتبين لك الخيط الأبيض من الأسود.